الصفحة الأولى | اطبع | أرسل لصديق | أضف إلى المفضلة | اتصل بنا | حجم الخط    أ أ أ

لماذا "سِفْر الصين"؟ (صور)


شارع تشانغآن في ثمانينات القرن الماضي

 

شارع تشانغآن اليوم

البعض يكتب عن الصين مبشرا ومرحبا بصعودها أو نهوضها أو تقدمها، أياَ كان الوصف الذي يُلصق بها، والبعض يكتب مُحذرا متوجسا من هذا الصعود أو النهوض أو التقدم. ولكن الكتابة عن الصين تظل مغامرة، ذلك أن هذا البلد الكبير بحجمه وتنوعه الهائل؛ المكاني والسكاني والعرقي والثقافي والتاريخي، يعطيك الصورة ونقيضها، فالصين لا تعرف الأحكام المطلقة. أنت تستطيع أن تكتب عن الثراء والرخاء في الصين، ويمكن أيضا أن تناقض هذا فتكتب عن الفقر والعوز، وبوسعك أن تتحدث عن التصاق الصينيين وتمسكهم بتقاليدهم وتراثهم وإرثهم الثقافي، ولديك مساحة واسعة للحديث عن تآكل تلك التقاليد والتراث والإرث، تكتب عن لادينية الصينيين، وعن أديانهم وعقائدهم الكثيرة، عن سرعة بديهتهم وقدراتهم الإبداعية وعن بطء تفكيرهم واستجابتهم، كما يصوره لك فهمك. تكتب عن التقدم التكنولوجي المدهش وعن الفقر التقني، عن انفتاح الصينيين على العالم وعن انغلاقهم على أنفسهم، عن سياسة الصين الخارجية النشيطة ودورها العالمي الفاعل وانخراطها في الشئون الدولية، وعن السياسة الخارجية المنكفئة على مصالحها، عن الأثر الإيجابي لنمو الاقتصاد الصيني على اقتصاد العالم وعن الأثر السلبي له. الكتابة عن الصين مثل النظر في لوحة حبر صينية، يمكنك أن ترى فيها صورا شتى متناغمة أو متناقضة، حسب النظارة الفكرية والمعرفية التي تقرأ بها. لا أحد يملك الحقيقة الكاملة عندما يكون الحديث عن الصين. ومعضلة الكتابة عن الصين، أنك كلما عرفت عنها أكثر فتر حماسك للكتابة وزادت حيرتك، وآثرت الانتظار حتى تنجلي الصورة، أو هكذا تظن.

معظم ما كُتب عن الصين، في السنوات الأخيرة يدور في فلك الاقتصاد والسياسة، فتأثير التجربة الاقتصادية الصينية ونمو الاقتصاد الصيني طغى على جوانب كثيرة من الصورة الصينية، وبحثُ حالة التنمية الاقتصادية والتنمية السياسية الفريدة في الصين جار على النظر في مجتمع الصينيين وثقافتهم وأدبهم وفنونهم. وفي عبارة قصيرة، لا يرى كثيرون في الصين غير السلع الصينية التي تشاركهم حياتهم، يرونها منتجات اقتصادية، وتلك رؤية مبتورة ومجحفة بحق الصينيين.

عندما كنت في الطائرة إلى الصين، كان وخز عقلي لقلمي عنيفا، يستفزه للكتابة، متصورا أن ما عرفته عن الصين، قبل أن أصل إليها، يكفي لكتاب إن لم يكن عدة كتب، فالصين فضاء هائل وبحر عميق؛ تخال أنه يسمح لك بالتحليق والسباحة، ولكنه فضاء ما إن تحلق به حتى تضيع في المجهول، وبحر ما إن تسبح فيه حتى تأخذك أمواجه وتدفعك إلى أعماق هيهات أن تصلها. وعندما ترسو قدماك على أرض الصين تحار من أين تبدأ، وإلى أين تنتهي، وتظل الحيرة رفيقا لك، تغذيها سرعة تغير وتحول تعجز العين عن ملاحقتها، أو كما يقول الصينيون، تهز الأرض والسماء.

ولا شك أن إقامتي وعملي في الصين لسنوات طويلة أتاحا لي فرصة لمعرفة الصينيين عن قرب، ومتابعة ما يكتبه الصينيون عن أنفسهم وعن بلادهم، وما يكتبه الآخرون عنهم، ولهذا فإنني اعتمدت رئيسيا في (سِفْر الصين) على بيانات ومعلومات من مصادر صينية، وأسجل هنا أن مجلة "الصين اليوم" وإصدارات المجموعة الصينية للنشر الدولي، والكتب العديدة الصادرة عن وزارة الثقافة الصينية والتي تغطي مجالات متنوعة، من ثقافة الطعام عند الصينيين إلى فن عمارتهم وطبهم ولغتهم وفنونهم وموسيقاهم وأعيادهم، وفرت لي مادة ثرية لفهم جوانب متنوعة من فكر وحياة الصينيين، كما أن جهود الزملاء الصينيين في إيضاح وشرح ما استشعرت فيه غموضا من فكر وتاريخ وحياة الصينيين، كانت عونا وحافزا لي لخوض مغامرة الكتابة عن الصين.

وتنبغي الإشارة إلى أن (سِفْر الصين) ليس كتابا عن اقتصاد أو سياسة الصين بقدر ما هو محاولة لفهم الشخصية الصينية في ماضيها وفي حاضرها، والتغيرات التي شهدها المجتمع الصيني في السنوات العشرين الماضية، وإن كان هذا لا يعني أنه يخلو من إطلالات على التنمية الاقتصادية والسياسية في الصين، ولكنها إطلالات لم يكن ممكنا تجاوزها لعلاقتها الجدلية بكافة جوانب حياة الصينيين المعاصرين.



     1   2   3    




تعليق
مجموع التعليقات : 0
مجهول الاسم :