Home |
arabic.china.org.cn | 11. 03. 2015 | ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
بقلم شيرين تشيان*
الجزء السادس: الإسكندري والشيطان
11 مارس 2015 / شبكة الصين / في مقالتنا السابقة (المقامة والحكاية الخرافية)، ذكرنا أن هناك حاجة الى دراسة شخصية الإسكندري من خلال تحليل شخصيات متشابهة في المقامات. وركزنا على "المقامة الإبليسية" حيث أشار الهمذاني إلى علاقة عميقة بين الإسكندري الفصيح وإبليس الذي كان معينا للشاعر جرير. وأي شخص حصل على مساعدة من الجن سيكون متقنا لفنون الشعر مهما كان صغيرا في عمره. بعبارة أخرى، يمكن أن يكون فتى شاعرا مطبوعا بغض النظر عن عمره. وفي "المقامة الأسودية"، أتى عيسى بن هشام إلى البادية حيث صادف فتى عرب "يُنْشِدُ شِعْراً يَقْتَضِيهِ حَالهُ، وَلاَ يَقْتَضِيهِ ارْتِجَالهُ". وأكد الفتى أنه مؤلف الشعر وأنشد أرجوزة لعيسى المرتاب فورا:
إِنِّي وَإِنْ كُنْتُ صَغِيرَ السِّنِّ *** وَكَانَ فِي العَيْنِ نُـبُـوٌّ عَنِّي
فَإِنَّ شَيْطَانِي أَمِيرُ الجِنِّ *** يَذْهَبُ بِي في الشِّعْرِ كُلَّ فَنِّ
حَتَّى يَرُدَّ عَارِضَ التَّظَنِّي *** فَامْضِ عَلَى رِسْلِكِ وَاغْرُبْ عَنِّي
يعتقد بعض الباحثين أن الأرجوزة والسجع لهما مصدر واحد، وكان الكهان قبل الإسلام متخصصين في هذين الفنين اللغويين. ونرى أنه من المحتمل أن يكون بعض البغلاء في العصر الإسلامي، وخصوصا الذين أتقنوا السجع والأرجورة، هم ورثة الكهان الجاهليين: كان يظهرون فصاحة هائلة وكانت لديهم وظائف تكهنية. ولهذا السبب، ظن الجمهور في وقت الهمذاني أن هؤلاء البغلاء يتعلقون بالجن أو الشياطين، كما كان الكهان متعلقين بهم في العصور قبل الإسلام. ولا ريب أن المتسول الفصيح أبا الفتح الإسكندري هو أحد هولاء البغلاء. فنجد في بداية "المقامة الأسدية"، التي قد تكون إحدى المقامات المبكرة، أن عيسى بن هشام هكذا يمدح بلاغة الإسكندري:
"وَيَرْوَي لَنَا مِنْ شِعْرِهِ مَا يَمْتَزِجُ بأَجْزَاءِ النَّفْسِ رقَّةً، وَيَغْمُضُ عَنْ أَوْهَامِ الكَهَنَةِ دِقَةً..."
وكان ينتشر في وقت الهمذاني فعلا اعتقاد العرب بأن الجن يملك قوى خارقة أخرى مثل الدلالة على حيوانات ضالة ومعرفة خواطر خفية وحتى تسبيب النسيان. ومثلا في "المقامة المارستانية"، لقي عيسى في مارستان البصرة مجنونا (والمعنى الأصلي لكلمة "مجنون" هو من يمتلكه الجن) ولم يقدّم له خطبة طويلة ينتقد فيها مذهب المعتزلة فحسب، بل أدرك أن عيسى أراد أن يخطب احدى تابعات المعتزلة، فتعجب عيسى منه كثيرا لأنه "لَمْ أُحَدِّث بِما هَمَمْتُ بِهِ أَحَداً، وَاللهِ لا أَفْعَلُ ذَلِكَ أَبَداً"، وقال "مَا هَذا وَاللهِ إِلاَّ شَيْطَانٌ فِي أَشْطَانٍ!" أما قدرة الشيطان على تسبيب النسيان، فذكرها الهمذاني مرة في بداية "المقامة البغدادية" (لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ) ومرة أخرى في نهاية "المقامة المطلبية" (وَمَا أَنْسَانِيكَ إِلاَّ الشَّيْطَانُ).
وفي هذه المقالة، ننوي الإسهاب في استخدام صورة الشيطان في المقامات التي فيها مشهد الشرب والطرب. وذكرنا في نهاية مقالتنا السابقة أن عيسى زيف شعرا لأبي نواس في "المقامة الإبليسية". ويوجد في هذه الخمرية أبيات كما يلي:
يَا لَيْلَةً غَبَرَتْ مَا كَانَ أَطْيَبَهَا *** وَالْكُوسُ تَعْمَلُ فِي إِخْوَانِنَا الشُّوسِ
وَشَادِنٍ نَطَقَتْ بِالْسِّحْرِ مُقْلَتُهُ *** مُزَنَّرٍ حلْفَ تَسْبِيحِ وَتَقدِيسِ
نَازَعْتُهُ الرِّيقَ وِالصَّهْبَاءَ صَافِيَةً *** فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِيسِ
لَمَّا ثَمِلْنَا وَكلُّ النَاسِ قَدْ ثَمِلوُا *** وَخِفْتُ صَرْعَتَهُ إِيَّاي بِالكُوسِ
غَطَطْتُ مُسْتَنْعِساً نوْماً لأُنْعِسَهُ *** فَاسْتَشْعَرَتْ مُقْلتَاهُ النَّوْمَ مِن كِيسِي
وَامْتَدَّ فَوْقَ سَرِيرٍ كَانَ أَرْفَقَ بِي *** عَلى تشَعُّثِهِ مِنْ عَرْشِ بَلْقِيسِ
في هذه القصيدة، وصف لنا الهمذاني مشهدا في داخل دير قضى "الشاعر أبو نواس" ليلة كاملة بصحبة ساقي مسيحي شاب. وجدير بالذكر أن الشاعر قارن نفسه بمن "فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِـيسِ". نلصق في هذه المقالة صورة من مخطوطة مقامات الحريري. تعرض هذه الصورة مشهدا متشابها في نهاية "المقامة الدمشقية": فالراوي الحارث بن همام عثر على البطل أبي زيد السروجي في حانة مدينة عانة:
"فإذا الشيخ في حُلَّة ممصَّرة بين دِنان ومِعصرة وحوله سُقاةٌ تبهر وشموع تزهر وآس وعبهر ومزمار ومزهر وهو تارة يستبزل الدنان وطورا يستنطق العيدان ودفعة يستنشق الريحان وأخرى مغازل الغزلان..."
ويمكن أن نقول إن سحر فن المقامات يكمن في الجمال المتساوي الذي نجده في شعرها وسجعها. وتبدو هذه الفقرة أنها وصف مفصل لمشهد الشرب والطرب الموجود في قصيدة "أبي نواس". وفي نهاية "المقامة الدمشقية"، ندم الحارث بن همام على "نقلي خطى القدم الى ابنة الكَرْم لا الكَرَم"، و"خلينا بين الشيخين أبي زيد وإبليس". ومن المرجح أن الحريري قد استلهم مقامات الهمذاني وخاصة "المقامة الخمرية" عندما ألف "المقامة الدمشقية". وفي هاتين المقامتين، أظهر البطل وجهيه المتعارضين. في النصف الأول لـ"الدمشقية الحريرية"، كان أبو زيد السروجي يتظاهر براهب مسيحي يعلم الحارث وأصحابه المسافرين صلاة تقية لحماية أنفسهم. وأصبح الحارث مندهشا عندما وجد الأخير في الحانة يغني قصيدة لتبرئة نفسه. أما في النصف الأول لـ"الخمرية الهمذانية"، فيتظاهر أبو الفتح الإسكندري بإمام ينتقد عيسى وندماءه الذين صلوا في مسجده بعد ليلة بين الأقداح والدنان:
"أَيُّهَا النَّاسُ مَنْ خَلَطَ فِي سِيرَتِهِ، وابْتُلِيَ بِقَاذُورَتِهِ، فَلْيَسَعْهُ دِيماسُهُ، دُونَ أَنْ تُنَجِّسَنَا أَنْفَاسَهُ، إِنِّي لأَجِدُ مُنْذُ اليَومِ، رِيحَ أُمِّ الكَبَائِرِ مِنْ بَعْضِ القَوْمِ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ بَاتَ صَرِيعَ الطَاغُوتِ، ثُمَّ ابْتَكَرَ إِلَى هذِهِ البُيُوتِ، الَّتِي أَذِنَ اللهُ أَنْ تُرْفَعَ، وَبِدَابِرِ هَؤُلاءِ أَنْ يُقْطَعْ، وَأَشَارَ إِلَيْنَا..."
وعندما أدرك عيسى أن هذا الرجل التقي هو الإسكندري:
"فَقُلْنَا: سُبْحَانَ اللهِ! رُبَّمَا أَبْصَرَ عِمِّيتٌ، وَآمَنَ عِفْرِيتٌ، وَالحَمْدُ للِه لَقَدْ أَسْرَعَ فِي أَوْبَتِهِ، وَلا حَرَمَنَا اللهُ مِثْلَ تَوْبَتِهِ، وَجَعَلنَا بَقِيَّةَ يَوْمِنَا نَعْجَبُ مِنْ نُسْكِهِ، مَعَ مَا كُنَّا نَعْلَمُ مِنْ فِسْقِهِ."
ونلاحظ الكلمات والعبارات المهمة مثل "أم الكبائر" و"الطاغوت" و"عفريت" و"نسك" و"فسق" في هاتين الفقرتين المذكورتين. وكما في النصف الثاني لـ"الدمشقية"، الراوي عثر على البطل البليغ في إحدى الحانات. ولكن قبل "مشهد التذكر" في "المقامة الخمرية"، سمع عيسى بن هشام أغنية "ضالة" لم يكن مطربها الا الشيخ الإسكندري! وعلاوة على ذلك، لم يندم الشيخ على تصرفاته وعلى "تفاوت يومه من أمسه"، وأنشد شعرا آخر:
دَعْ مِنَ اللَّوْمِ وَلَكِنْ *** أَيُّ دَكَّاكٍ تَرَانِي
أَنَا مَنْ يَعْرِفُهُ كُلُّ *** تَهَامٍ وَيَمانِي
أَنَا مِنْ كُلِّ غُبارٍ *** أنَا مِنْ كُلِّ مَكَانِ
سَاعَةَ أَلزَمُ مِحْرَا *** باً، وَأُخْرَى بَيْتَ حَانِ
وَكَذَا يَفْعَلُ مَنْ يَعْقِـ *** لُ فِي هَذَا الزَّمَانِ
بالنسبة لشيخنا الإسكندري، فالحياة بين المحراب والحانة هي الحياة المثالية وما "يفعل من يعقل في هذا الزمان". ومن المثير للإهتمام أن الهمذاني والحريري كلاهما سلطا الضوء على دور البطل كمطرب. رغم أن نصوص المقامات هي ليست تسجيلات لأصوات أو صور، فنشعر بحيوية وجمال وصفهما لمشاهد الشرب والطرب.
_______________
* حاصلة على درجة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة بنسلفانيا.
![]() |
![]() |
![]() |
انقلها الى... : |
|
||
China Internet Information Center E-mail: webmaster@china.org.cn Tel: 86-10-88828000 京ICP证 040089号 京公网安备110108006329号 |