标题图片
Home
arabic.china.org.cn | 01. 03. 2015

بديع الزمان الهمذاني...مخترع فن المقامات في القرن العاشر الميلادي 5 (خاص)

بقلم شيرين تشيان*

الجزء الخامس: المقامة والحكاية الخرافية

1 مارس 2015 / شبكة الصين / في مقالتها "بديع الزمان الهمذاني ورؤيته الاجتماعية والسياسية" التي نُشرت في عام 1993، أوضحت الباحثة اللبنانية الأمريكية وداد القاضي أن "الهمذاني اخترع فن المقامة حيث قدم الى الأدب العربي الكلاسيكي أول عمل خيالي رُوي على ألسنة الناس وليس على ألسنة الحيوانات". وفي كتابه "المقامة: تاريخ نوع أدبي" (2002)، أكد الباحث الفنلندي ياككو همين أنتتلا أن المقامة تختلف عن الحكايات الخرافية وأساطير العجماوات التي كانت تمثل أهم نوع خيالي في الأدب العربي قبل القرن الرابع الهجري. وحقاً أن معظم المقامات الهمذانية تدور على مغامرات مربحة للبطل المتسول أبي الفتح الإسكندري. ولكن هل لم تكن هناك أي علاقة بين المقامة والحكاية الخرافية؟

وعندما تصفحنا "رسائل بديع الزمان الهمذاني"، وجدنا رسالة مهمة تناظر الهمذاني فيها مع أبي بكر الخوارزمي لأن الأخير قد احتقر مقاماته علناً ("ما بلغنا عنه من اعتراض علينا فيما أملينا، وتجهيز قدح علينا فيما روينا من مقامات الاسكندري"). فرد عليه الهمذاني يقول: "ولو أنصف هذا الفاضل لراض طبعه على خمس مقامات أو عشر مفتريات ثم عرضها على الأسماع والضمائر وأهداها الى الأبصار والبصائر..." ومن الواضح أن الهمذاني جعل "خمس مقامات" موازيا لـ"عشر مفتريات" في هذه الرسالة التي تكون أيضا احدى الرسالتين اللتين ذكرت "أربعمائة مقامة" فيهما. كان بعض الأدباء الرؤساء في وقت الهمذاني لم يعتبروا المقامة نوعا أدبيا راقيا ولو كان المخترع الهمذاني يعتزّ بإعجازها اللغوي وخياليتها الصافية. وما تلاشى احتقار الناس للمقامة حتى في نهاية القرن الخامس الهجري: فنتذكر من حين الى آخر أن الحريري، في مقدمة مقاماته الخمسين المشهورة، دعا قراءه إلى أن "نَظَمَ هذه المقامات في سِلْك الإفادات وسَلَكَها مَسْلَكَ الموضوعات عن العجماوات والجمادات". كان الحريري واثقا من وجود العلاقة (أو يحاول إيجاد علاقة) بين المقامة و"مرايا الأمراء" التي كانت نوعاً أدبياً ذا شعبية كبيرة من قبل. فالحريري كان يرغب في اعتراف الناس بفوائد كثيرة تتضمنها المقامة، حيث تمتعوا بالقيم التعليمية ومتعة القراءة في الأعمال الخيالية مثل "كليلة ودمنة". ونعرف أن قصة "الحمامة المطوقة" في "كليلة ودمنة" قد تكون إلهاما لجماعة من الفلاسفة البصريين المعروفين بـ"إخوان الصفا". ومن رسائلهم الـ52 هناك "في تداعي الحيوانات على الإنسان عند ملك الجن"، القصة التي تشهر بخياليتها المحضة.

وفي هذه المقالة، نود أن نركز على مقالة واحدة من مقامات الهمذاني لنشرح ما هو الدور الذي تؤديه الحكاية الخرافية في اختراع نوع أدبي جديد خلال القرن الرابع الهجري، ولماذا الهمذاني كان يستخدم عوامل "خرافية" في تشكيل بطله الاسكندري الذي بلاغته وفصاحته دائما تُذكِّرنا بالكُهَّان قبل الإسلام . ومن بين المقامات الـ52 للهمذاني هناك توجد "المقامة الإبليسية" التي لم يكن بطلها أبا الفتح الإسكندري، بل "الشيخ أبا مُرَّة" أي إبليس. وخلاصة القصة فيما يلي: وصل عيسى بن هشام صدفةً الى وادٍ من أجل البحث عن إبلٍ ضالة له. وفي هذا الوادي الذي كان بعيدا من الناس، وجد عيسى شيخا لم يخبره (عن طريق لغزٍ مسجوعٍ) مخبأ الإبل فحسب، بل عبر عن رأيه في نقد "أشعار العرب". وقال الشيخ لعيسى إنه كان معينا للشاعر جرير، الأمر الذي يدل إلى إعتقاد العرب المنتشر أن كل شاعر معه معين من الجن. وأخيرا، لقي عيسى في وادي الإبليس أبا الفتح الإسكندري الذي اكتسى عمامة أهداها إليه إبليس من قبل. ومن الواضح أن الهمذاني لمح في نهاية المقامة إلى أن إبليس قد اعترف بفصاحة الإسكندري، مما يفسر لماذا عيسى، الذي قد "تَصَفَّحْتُ دَوَاوينَ الشُّعَرَاءِ، حَتَّى ظَنَنْتُني لَمْ أُبْقِ فِي القَوْسِ مِنْزَعَ ظَفَرٍ"، دائما شغف ببلاغته المطبوعة.

ويكمننا القول إن هذه المقامة تتعلق بالحكاية الخرافية بشكل قوي. ولكن في الوقت نفسه، يجب أن نعتبر "الإبليسية" مقامة للنقد الأدبي كشف الهمذاني فيها سر بلاغة بطله عن طريق هذه العوامل الخرافية. وبالنسبة للعرب قبل الإسلام، كانت بلاغة الكهان والشعراء تنبع من الارتباطات بينهم وبين الجن. واستمر هذا الإعتقاد في الانتشار بعد ظهور الإسلام ورغم أن النبي كان يقول "لا كهانة بعد النبوّة". وميزة مثيرة للاهتمام في المقامات هي أن الهمذاني خلق شخصية الإسكندري عن طريق التراكُب، أي يجب أن ندرس شخصية الإسكندري بواسطة تحليل الشخصيات المتشابهة في المقامات. ونقترح أن هناك تشابهات كثيرة بين الإسكندري وإبليس في هذه المقامة.

وتختلف مقدمة المقامة الإبليسية عن مقدمة المقامة النموذجية (راجعوا أجزاء المقامة في مقالتنا "ما هي المقامة؟"). لم يأت الراوي إلى مدينة إسلامية معينة، بل إلى بلاد العجائب:

فَإِذَا أَنْهَارٌ مُصَرَّدَةٌ، وَأَشْجَارٌ بَاسِقَةٌ، وَأَثْمَارٌ يَانِعَةٌ، وَأَزْهَارٌ مُنَوِّرَةٌ، وَأَنْمَاطٌ مَبْسُوطَةٌ. وَإِذَا شَيْخٌ جَالِسٌ، فَرَاعَنِي مِنْهُ مَا يَرُوعُ الوَحِيدَ مِنْ مِثْلِهِ، فَقَالَ: لاَ بَأْسَ عَلَيْكَ...

وفي الحقيقة، فإن الإنتقال من محيط مألوف إلى محيط غريب كان يتيح للهمذاني حرية أكثر لممارسة انتقاده الأدبي. ولم يكن الناقد (إبليس) في مجتمع الناس. ولإنه كان معينا لجرير، فوقته مختلف عن وقت عيسى ويمكنه أن يعمل حكما عادلا بين أشعار المتقدمين وأشعار المتحدثين . وإذا نظرنا إلى بداية المقامة بعين الأدب المقارن، فمثل هذا الإنتقال (راجعوا "أليس في بلاد العجائب"، و"رحلات غوليفر"، و"سجلات نارنيا") يشابه الحلم الذي نلاحظ في بداية الكثير من الأعمال الأدبية (راجعوا "ساحر أوز العجيب"، و"عزاءة الفلسفة" لبوثيوس في أوائل القرن السادس الميلادي، و"بيرس الفلاح" كتبه لوليام لانجلاند في النصف الثاني من القرن الـ14 الميلادي، و"رحلة لاو تسن كتبها الأديب الصيني ليو آ في أوائل القرن الـ20 الميلادي). ويجدر بالذكر أن هذه الأعمال التي تستخدم "الإنتقال" أو "الحلم" في بداياتها تختلف مواضيعها: من رواية الأطفال والفنتازيا الى النقد الإجتماعي والتعليم الفلسفي. وفي المقامة الإبليسية، لم يُصَف الشيخ كمن يمتلك القوات الخارقة، بل كناقد أدبي. وعندما طلب من عيسى رواية شيئ من أشعار العرب، لم ترضه أبيات "اِمْرِئِ القَيْسِ، وَعَبيدٍ وَلَبِيدٍ وَطَرَفَةَ"، أي الشعراء المتقدمين. ولما أنشد لعيسى شعره، وجد الأخير أن قصيدته كانت لجرير: "قَدْ حَفِظَتْهَا الصِّبْيَانُ، وَعَرَفَتها النِّسْوانُ، وَوَلَجتِ الأَخْبِيةَ، وَوَرَدِتْ الأَنْدِيَة". وكان عيسى يتهم الشيخ بسرقة ولكن في وقت لاحق، عرف أن الشيخ هو معين جرير فلم يكن مذنبا. ثم طلب الشيخ من عيسى أن يروي لأبي نواس شعرا، "فَطَربَ الشَّيْخُ وَشَهَقَ وَزَعَقَ". أولا، استمتع معين المتقدم بشعر المتحدث، الأمر الذي يشير إلى دعم الهمذاني للأعمال الأدبية في وقته. وثانيا، هذه القصيدة المكونة من 11 بيتا من البحر البسيط ليست موجودة في ديوان أبي نواس. فعيسى لم يتهم الشيخ زورا بسرقة فحسب، بل زيّف شعرا لأبي نواس يذكر فيه "فِي زيِّ قَاضٍ وَنُسْكِ الشَّيْخِ إِبْلِـيسِ" و"عَرْشِ بَلْقِــيسِ". وتجدر الإشارة إلى أن بلقيس، حسب بعض أحاديث الإسرائيليات، ورثت الحكمة من والدتها الجنية. وزيارتها إلى قصر سليمان كانت موضوعا مفضلا لكثير من الحكايات الخيالية الكلاسكية.

 

_______________

* حاصلة على درجة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة بنسلفانيا.

 

   يمكنكم مشاركتنا بتعليقاتكم عبر فيسبوك و تويتر
 
انقلها الى... :

الترتيب للأخبار

تعليق

تعليق
مجهول
الاسم :
(0) مجموع التعليقات :
China Internet Information Center E-mail: webmaster@china.org.cn Tel: 86-10-88828000
京ICP证 040089号 京公网安备110108006329号