| arabic.china.org.cn | 24. 11. 2025 | ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
الحلوى العُمانية في بكين.. حين تتحول الثقافة إلى جسر نابض بين الشعبين

ركن الحلوى خلال الاحتفال الذي نظمته سفارة سلطنة عمان لدى الصين (المصدر: سفارة السلطنة ببكين)
إعداد: أمينة بنغ
24 نوفمبر 2024 / شبكة الصين / في قلب العاصمة الصينية بكين، وبين الإضاءة الذهبية التي تنسدل فوق سقف القاعة الفسيحة، تجمع الضيوف حول مشهد بدا غريبا ومألوفا في الوقت ذاته: وعاء نحاسي واسع يغلي بحلوى عُمانية داكنة تتلألأ فوقها خيوط الزعفران، وتتصاعد منه رائحة الهيل التي تمسّ الحواس قبل أن تصل إلى الذاكرة.
كانت تلك اللحظة، بكل بساطتها، مركز الجاذبية في الاحتفال الذي نظمته سفارة سلطنة عُمان في بكين بمناسبة العيد الوطني الخامس والخمسين. لم يكن أحد يتوقع أن يتحول طبق من الحلوى إلى جسر ثقافي حي، وإلى لغة تتجاوز الكلمات، وتسرد حكاية طويلة عن شعبه وتاريخه.
طقس عربي يوقظ ذاكرة صينية
إلى جانبي وقف البروفيسور علاء الدين المتخصص في الثقافة العربية بجامعة بكين، وعيناه تتابعان يد الشاب العُماني التي تتحرك بتناغم داخل الوعاء. قال لي بنبرة تجمع بين الدهشة والتأمل "هذا المشهد يشبه تماما الطريقة التي يُطبخ بها الشاي الصيني التقليدي.. ليس مجرد تحضير، بل طقس ثقافي كامل".
كانت كلماته أول خيط يربط بين ثقافتين بعيدتين جغرافيا، لكنهما متقاربتان في قيم الضيافة والاحترام. فالعُمانيون، مثل الصينيين، يمنحون التفاصيل الصغيرة معنى كبيرا. والطقس، في كلا الثقافتين، ليس إطارا خارجيا للضيافة، بل هو قلبها وروحها.
وقد بدأ الضيوف الصينيون لا يتعاملون مع الحلوى بوصفها مأكولا خفيفا، بل باعتبارها نافذة ثقافية تتيح لهم فرصة لاكتشاف جذور عُمان. حيث قالت السيدة تشانغ يينغ، المهتمة بالتبادل الثقافي الصيني–العربي "لم أتوقع أن أجد طعما في الاحتفال يتمتع بهذا العمق.. شعرت أنني تذوقت البحر والصحراء معا".
هذا الانطباع ليس مبالغة. فالحلوى العُمانية ــ بمكوناتها العطرية ــ ترتبط مباشرة بتاريخ تجارة التوابل واللبان الذي جمع الصين وعُمان عبر بحر العرب قبل أكثر من ألف عام.
الحلوى العُمانية تثير اهتماما واسعا
ومع ازدياد التفاف الحضور حول المرجل النحاسي، تقدمت السيدة نصراء الحجري، إحدى المسؤولات في طاقم السفارة العُمانية لدى الصين، وأخبرتني "أردنا الليلة أن نقدّم جزءا من هوية عُمان، ليس فقط بما تلمسه اليد، بل بما يخالطه القلب... الحلوى ليست مجرد طبق، إنها طقس من الاحترام والفرح، ونؤمن أنها أفضل لغة للتعريف بشعبنا".
كان لهذا التصريح أثر واضح؛ فقد أصبح المشهد مفهوما في سياقه الحقيقي: عُمان لم تعرض منتجا غذائيا، بل عرضت ذاتها وثقافتها وشعبها، بطريقتها العميقة والصادقة.
ومن منظور صحفية صينية، كانت أكثر لحظات الاحتفال تعبيرا عن روح الحلوى العُمانية، عندما التفت أحد الضيوف إلى زميله وهمس مبتسما "هذه ليست مجرد وجبة خفيفة.. إنها وسيلة لفتح القلوب قبل بدء الملفات الرسمية".
قالها بعفوية، لكنها كانت تلخيصا لفكرة "الدبلوماسية الشعبية" التي تعرف الصين قيمتها جيدا. فالثقافة لها دور مهم في تعزيز التبادلات الشعبية، وتقريب القلوب.
وبالنسبة لعُمان، فإن تقديم الحلوى في بكين لم يكن إيماءة بروتوكولية فقط، بل رسالة صداقة تقول للصينيين "هذه ثقافتنا.. نقدّمها لكم كما نقدّمها لأصدقائنا وضيوفنا في مسقط ونزوى وصور".
تفاصيل يتقاطع عندها الشرقان
كان الشاب العُماني الذي يرتدي زيا تقليديا داكنا وعمامة مزركشة ويبتسم كما لو أنه يعرف جميع الحاضرين منذ سنوات، يشرح للصينيين طريقة إعداد الحلوى.
يقول لهم وهو يحرّك كتلة الحلوى بملعقة كبيرة "نستغرق ساعة أو أكثر من التحريك.. لكن السر في الصبر، وفي الحفاظ على الإيقاع".
هذا التشديد على "الإيقاع" لفت انتباه أحد الضيوف الصينيين، وهو رجل أعمال من شانغهاي، قال "الأشياء الثمينة تحتاج إلى وقت.. هكذا تقول الحكمة الصينية".
هذا النوع من التفاعل ــ حيث يجد الصيني في طقس عربي امتدادا لفلسفته التقليدية ــ هو ما يخلق ما يُسمّى في العلاقات الثقافية بـ"الانسجام العاطفي". فالمشهد لا يبدو غريبا، بل مألوفا بطريقة ما.
في الزاوية الأخرى، وقف طلبة صينيون يدرسون اللغة العربية بجامعة بكين يتبادلون الانطباعات. قال أحدهم، وقد سمّى نفسه يوسف "كنت أظن أن المطبخ العربي كله يعتمد على التمر والعسل فقط، لكن هذه الحلوى مختلفة تماما".
لقد بدت ملامح الاكتشاف واضحة على وجوههم، فقد كانت الحلوى مدخلهم الأول لفهم عُمان بعيون جديدة.
صناعة صورة عُمان في الوعي الصيني
خلال حديثها، أكدت الحجري، وهي تتابع المشهد بفخر، كمن ترى أمامها تجسيدا حيا لرسالة السفارة. أن "ما رأيناه اليوم يؤكد أن الثقافة العُمانية قادرة على خلق أصداء واسعة في الصين، فالإقبال على الحلوى ليس تذوّقا لطبق عماني فحسب، بل تفاعلا مع قصة البلاد وهويتها وتراثها". وأضافت برؤية واضحة "نسعى لتوسيع هذا النوع من المبادرات الثقافية، فالثقافة ليست مجرد عنصر مكمّل للدبلوماسية، بل هي جوهرها".
هذا التصريح كان بوابة مناسبة للانتقال من السرد الإنساني إلى الرؤية الاستراتيجية. فالحلوى، كما قالت "ليست سوى الخطوة الأولى في طريق طويل من الفعاليات الثقافية العُمانية، سيكون المواطن الصيني على موعد معه".
ولإكمال الصورة أمام القارئ، لا بدّ لي من التذكير بأن الثقافة العُمانية ليست حلوى فقط، بل فنون تقليدية مثل الرزحة والعازي، وحرف تراثية كصناعة الخناجر والفضيات، وقهوة عمانية بنكهتها الخاصة، وأزياء بألوان وملامح واضحة، وموسيقى تمزج البحر بالصحراء. وهي الإرث الذي يتحول إلى جسور حقيقية للتواصل مع المجتمع الصيني.
ماذا بعد الحلوى؟
تكرّر خلال الاحتفال سؤال طرحه عدد من الحضور: "هل سنرى مزيدا من العروض الثقافية العُمانية في الصين؟".
والإجابة ــ كما يبدو من وجهة نظري ــ ترتبط بالرؤية المشتركة بين البلدين. فكما أكدت الحجري، فإن حضور الحلوى العُمانية في بكين يجب ألا يكون حدثا استثنائيا، بل يجب أن يكون بداية لسلسلة من المبادرات الثقافية. ذلك أن "التقارب العميق" لا يتحقق بالاتفاقيات فقط، بل بالقصص الصغيرة التي يعيشها الناس.
ويمكنني القول، إنني لاحظت أن الحلوى العُمانية لعبت ــ دون تخطيط مسبق ــ دور "الجسر الناعم" الذي يُسهّل الحوار، ويعزز العلاقات، ويخلق بيئة ودّية تُمهّد لمسارات أعمق في التعاون في شتى المجالات. فإذا كانت قطعة حلوى قادرة على أن توقظ في ضيف صيني شغفا لاكتشاف جمال وثقافة عُمان، فإنها صارت بذلك جسرا يربط بين القلوب ويعزز التقارب الشعبي بين البلدين.
المهم أنه عندما غادرت الحفل، كانت رائحة الهيل ما زالت تلتصق بثيابي. شعرت أنها ليست مجرد رائحة، بل ذكرى صغيرة لليلة كبيرة. ليلة أثبتت أن الطعام يمكن أن يكون رسالة حب، وأن قطعة حلوى يمكن أن تحمل تاريخا طويلا من الصداقة، وأن بكين، بكل تنوعها، تستقبل نكهات بعيدة وتجعلها جزءا من لحظتها.
لم تكن الحلوى العُمانية مجرد طبق. كانت، في تلك الأمسية، جسرا من السكر والزعفران بين بلدين كبيرين، وطريقة ناعمة تقول للصينيين: "هذه عُمان.. وأهلا وسهلا".
![]() |
|
![]() |
انقلها الى... : |













