سيبقى السادس والعشرون من أكتوبر وشخصية عظيمة من أبناء لبنان محفورين في ذهني ووجداني مابقيت على هذه الأرض. كان شخصية عظيمة لأن قلبه كبير، أحب وطنه وأحب الضعفاء في كافة أرجاء الدنيا. رجل عصامي تحول من مواطن لبناني عادي إلى صاحب شركة كبيرة، غلوب إكسبوس سرفسز العالمية. نثر بذور حبه في جامعات ومدارس ومستشفيات، في لبنان والعالم.
في الصين ساعد خمسين تلميذا فقيرا لاستكمال دراستهم. وفي واحدة من القرى الفقيرة بمقاطعة شاندونغ أنشأ "المدرسة اللبنانية للفتيات"، أجمل مؤسسة تعليمية في تلك المنطقة. في ساحة المدرسة لافتة حجرية مدون عليها: بيار يوسف أبو خاطر، أول عربي تبرع لمشروع الأمل الصيني.
قبل ثلاث سنوات، وتحديدا في السادس والعشرين من أكتوبر 2002 تركنا بيار ولكن ذكراه لم ولن تغادرنا. ستصنع فتيات مدرسته زهورا من الورق الملون، فالزهور الحقيقية رفاهية لا يستطعنها، وسيضعنها أمام لافتة المدرسة التي تحمل اسمه إحياء لذكرى "جدهم اللبناني". أما أنا فليس لدي هدية تليق بعطفه ومشاعره الإنسانية. ربما إذا أتيحت لي فرصة السفر إلى لبنان في يوم ذكرى رحيله، سأقف أمام قبره أحكي له قصة لا أشك أن روح الطاهرة سوف تسعد بها.
كان ذلك في الثامن عشر من شهر مايو عام 1997، وكنت هناك لحضور حفل افتتاح المدرسة اللبنانية نيابة عنك يا بيار. وبينما أهم بالخروج من المدرسة استوقفتني فتاة لا تخطئ العين فقر حالها، وقالت: أنا مدرسة مؤقتة في مدرسة ابتدائية ريفية، لكنني لا أحمل اكثر من شهادة الإعدادية. وأضافت المعلمة الصينية أن اهتمام هذا اللبناني بتعليم أبناء الصين هزها من الداخل وجعلها أكثر تصميما على رفع مستواها العلمي، ولهذا لابد من السفر إلى عاصمة البلاد للدراسة. طلبت مني المساعدة.
بعد أشهر جاءت إلى بكين ومتاعها من الدنيا ليس أكثر من لحاف قديم ومائتي يوان (25 دولارا أمريكيا). اشتغلت عاملة نظافة مؤقتة في دار الضيافة بجامعة بكين بأجر شهري 400 يوان (50 دولارا أمريكيا)، وسجلت اسمها في مدرسة ليلية لإكمال الدراسة الثانوية، وتركت أثر قدميها كل يوم على الطريق الممتد من الجامعة إلى المدرسة بطول ثلاثة كيلومترات، لا يمنعها برد قارس ولا حر خانق. رفضت أي مساعدة مادية، مكتفية بالأربعمائة يوان، في مدينة مصروف جيب الطفل بها قد يفوق هذا المبلغ، تأكل منها وتدفع رسوم الدراسة وتشتري اللوازم اليومية منها، بل وتدخر بعضا منها ترسله لأسرتها الفقيرة!
في أول مايو 2001 قررت أن أزور المدرسة اللبناينة مرة أخرى واصطحبت الفتاة معي لتزور أهلها. عندما وصلنا القرية طلبت مني أن نتوجه إلى المدرسة اللبنانية قبل بيت أسرتها. وقفت أمام اللافتة وقالت: اشكرك أيها الجد اللبناني. بتشجيع من روحك المخلصة سأحصل على شهادة فوق الثانوية بعد شهر. وانحنت احتراما لبيار أبو خاطر.
اليوم هذه الفتاة التي بلغ عمرها 27 سنة طالبة بالسنة الثانية الجامعية. قلت لها ذات مرة: أنت في عمر الزواج! قالت مبتسمة: الدراسة أهم. بيار أبو خاطر، الأجنبي، تبرع لكي يتعلم الأطفال الصينيون، فهل يحوز لي، وأنا صينية أن أترك الدراسة؟
بيار أبو خاطر، أعز الأصدقاء استرح بعد أن قدمت عطاء عظيما للإنسانية، ولكن روحك ستظل متقدة تشجع الناس وتحرك الذاكرة أبدا. (الصين اليوم / أكتوبر 2005 /)
شبكة الصين / 27 أكتوبر 2005 /