| arabic.china.org.cn | 01. 11. 2025 | ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
بقلم : أحمد النور
طويلة، السودان 31 أكتوبر 2025 (شينخوا) اسمي أحمد النور، أبلغ من العمر ثمانيةً وثلاثين عامًا، كنت أعمل مسعفًا في مركزٍ طبي صغير بوسط مدينة الفاشر، التي ظلت محاصَرة لأكثر من عام، قبل أن تتحول في أيامٍ قليلة إلى صدى بعيدٍ للحياة.
خلال معايشتي لـ"مأساة" المدينة، لم أكن بطلًا، ولم أبحث عن بطولة، كنت فقط أحاول أن أساعد الناس بما أستطيع: أن أوقف نزيفًا هنا، وأطمئن مريضًا هناك، وأقول كلمة "ستكون بخير" حتى عندما كنت أعلم أن الألم أكبر من قدرتي على التخفيف.
أكتب هذه الرسالة من خيمةٍ صغيرة في أطراف بلدة (طويلة)، حيث لجأت بعد رحلة هروب على الأقدام استمرت ثلاثة أيامٍ من العطش والخوف والنجاة بالصدفة.
الليل هنا بارد، طويل وصامتٌ إلا من نباح كلابٍ بعيدة، وصوت الريح وهي تعبث بأطراف الخيام، لكن هذا الصمت لا يُشبه السكينة، إنه صمت ما بعد الانفجار، صمت الذين رأوا أكثر مما يُحتمل.
قررتُ أن أسرد كلماتي، فالكتابة تمنحني لحظة من التنفس في عالمٍ يختنق كل يوم.
الفاشر… مدينتي التي أحببتها كما يحب القلب أول موطن، كانت تضجّ بالحياة رغم الحرب التي كانت تلوح في الأفق كظل ثقيل لا يزول، لكن مع مرور الأشهر، أصبحت الحرب كل شيء: الهواء، والطعام، والحديث، وحتى الأحلام.
كنت أعمل في المستشفى الرئيسي للمدينة، وحين لم يعد المكان مستشفى كما عرفناه، بل صار مساحةً يختلط فيها الأنين بالصبر، انتقلت إلى مركزٍ صحي صغير بوسط المدينة، كان المرضى يفترشون الأرض لأن الأسرّة لم تعد تكفي، وكانت الضمادات تُغسل ويعاد استخدامها لأن الجديد لا يأتي، كنا نُداوي الجراح بضميرٍ متعب، ونقيس الأمل بملعقة دواء.
في الليل، كانت المدينة تغفو على أصوات المدافع، وكانت السماء تتوهّج كأنها تنزف نارًا، كنت أضع رأسي على طاولةٍ باردة، أُغمض عينيّ، وأتساءل: كم من الأرواح ستموت قبل أن يطلع الصباح؟ لم أكن أملك إجابة، لكنني كنت أملك قناعةً واحدة - أن الرحمة لا يجب أن تموت، مهما مات كل شيء من حولها.
ثم جاء يوم السادس والعشرين من أكتوبر، اليوم الذي انطفأت فيه الفاشر، بدأت الانفجارات تقترب كخطوات عملاقٍ غاضب، رأيتُ من نافذة المركز الصحي دخانًا كثيفًا يبتلع الأحياء واحدًا تلو الآخر، في الخارج، كان الناس يركضون بلا وجهة، تختلط أصواتهم بين الصراخ والدعاء والاستغاثة، بينما الرصاص يكتب الفوضى في الهواء.
حين سقطت المدينة، لم تسقط الحجارة فقط، سقطت طفولة أطفالٍ كانوا يلعبون في الشوارع، وسقطت ذكريات نساءٍ كنّ يخبزن على أمل غدٍ آمن، رأيتُ الموت يتجوّل في الطرقات بلا رحمة، جثث المدنيين ممددة في الظلال، والمنازل التي كانت مأوىً للعائلة أصبحت رمادًا بلا أسماء.
في يوم السقوط، جاءني زميلي وقال: "الطريق إلى طويلة ما زال مفتوحًا، لو خرجتَ الآن ربما تنجو"، لم أسأله ماذا يعني بـ"تنجو"، كنت أعرف أن النجاة في الحرب لا تعني الحياة تمامًا، بل مجرد بقاءٍ آخر، شكلٌ ناقص من الوجود.
ومع ذلك قررتُ الرحيل، لم يكن قرارًا سهلًا، لكنه كان ضرورة، خرجتُ ليلاً، ومعي مجموعة صغيرة من الجيران، بعضهم نساءٌ يحملن أطفالًا على صدورٍ هزيلة، وبعضهم رجالٌ فقدوا كل شيء إلا الإرادة، حملتُ حقيبةً صغيرة فيها أدوات إسعافٍ بسيطة، وزجاجة ماءٍ نصف ممتلئة، وكثيرًا من الخوف.
على جانبي الطريق، رأيتُ ما لا يُروى: منازل مهجورة، جثثًا مغطاة بأقمشةٍ رقيقة، حيواناتٍ نافقة، وماءً راكدًا بلون التراب.
سرنا ثلاثة أيام في طرقٍ وعرةٍ تتلوّى بين الجبال والأودية، كانت الشمس حارقةً، والغبار يملأ أنوفنا، في النهار كنا نختبئ من المسلحين والعصابات التي تترصّد المارة، وفي الليل كنا نسير على ضوء القمر الخافت، نسمع نباح الكلاب في القرى البعيدة، وصوت أقدامنا المرهقة كأنها دقات ساعةٍ تحسب ما تبقّى لنا من عمر.
على الطريق، سقط رجلٌ مسنّ مصاب من التعب، فجلستُ إلى جواره، مسحتُ جبينه، وربطتُ جرحه بقطعةٍ من قميصي، لم أكن أملك إلا يديّ وإصراري على ألا يموت أحد وحيدًا. في لحظةٍ كهذه، لا يكون الطب علمًا، بل يكون حنانًا صامتًا يضمد الخوف أكثر مما يضمد الجراح.
عندما وصلنا إلى بلدة (طويلة)، كانت الشمس تميل إلى الغروب، أمامنا بحرٌ من الخيام يمتد بلا نهاية، وجوهٌ متعبة، عيونٌ غارقة بالدموع، وأطفالٌ يبحثون عن نقطة ماء، كل شيء هنا يقول: النجاة ليست حياة، بل بداية أخرى من الصبر.
في الليل، أجلس على الأرض، أكتب هذه الكلمات تحت ضوء مصباحٍ خافت، وأتذكّر الفاشر كما كانت - مدينةً نابضة بالناس، بالحياة، بالأحلام، أُغمض عينيّ، وأرى شوارعها، ورائحة ترابها بعد المطر، وضحكات الأطفال التي كانت تملأ الأسواق.
لقد فقدتُ كل شيء تقريبًا… إلا إيماني بأن الإنسان قادرٌ على النهوض، رأيتُ من الموت ما يكفي ليعلّمني أن الأمل ليس ترفًا، بل مقاومة، وإن كانت الحرب قد أخذت منا كل شيء، فإنها لن تأخذ قدرتنا على الحلم.
من هنا، من خيمتي الصغيرة، أؤمن أن الفاشر ستعود يومًا، كما تعود الروح إلى الجسد، وأن ضوء الفجر، مهما تأخر، لا بد أن يأتي.
ومنذ وصولي إلى طويلة، أعيش في خيمةٍ من قماشٍ رمادي، أساعد في نقطة إسعافٍ مؤقتة أقامها المتطوعون، أحيانًا أرى في وجوه المرضى ظلّ أولئك الذين فقدتهم في الفاشر.
كل جرحٍ أُضمده يعيدني إلى هناك… إلى أصوات الممرات المظلمة، ورائحة المعقّم المختلطة بالدخان.
أكتب هذه الكلمات الآن، لأنني أخشى أن يأتي يومٌ يُنسى فيه ما حدث، ويُقال إن الفاشر كانت مجرد "خبرٍ عابر"، لكنها لم تكن كذلك، كانت مدينةً مليئة بالنبض، بالأسواق، بالضحكات، وبالأمل.
أحلم أن أعود يومًا إلى الفاشر، لا كمجرد ناجٍ، بل كمن يُعيد إليها شيئًا من الحياة.
هذه رسالتي من طويلة، رسالةُ مسعفٍ فقد مدينته، لكنه لم يفقد إيمانه بأن الرحمة لا تموت، وأنه حتى تحت الرماد… يمكن أن يولد النبض من جديد.
وأعلنت قوات الدعم السريع الأحد الماضي السيطرة الكاملة على مدينة الفاشر عاصمة ولاية شمال دارفور غربي السودان، بعد معارك "طاحنة" مع قوات الجيش وحلفائه وحصار لأكثر من عام.
![]() |
|
![]() |
انقلها الى... : |
|
China
Internet Information Center E-mail: webmaster@china.org.cn Tel: 86-10-88828000 京ICP证 040089号 京公网安备110108006329号 |