arabic.china.org.cn | 16. 04. 2025 | ![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
بقلم فائز الزاكي حسن
الخرطوم 15 أبريل 2025 (شينخوا) ظهر على هاتفي مقطع فيديو من جاري فجأة، أظهرت لقطاته المشوشة رجالا مسلحين يكسرون باب شقتي في الخرطوم ويفتشون الغرف التي أحفظها عن ظهر قلب.
للحظة شعرت بتشنج حنجرتي، وبصعوبة في التنفس، وارتجفت يداي وأنا أحدق في الشاشة، وأتساءل: ماذا كان سيحدث إن بقيت عائلتي في المنزل؟
"صحفي بلا مأوى، يوثق دمار أمة لم يعد يعرفها"، هكذا وجدت نفسي بعد عامين من الصراع في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع شبه العسكرية.
وبينما كنت أجوب البلاد محاولا استنباط معنى النجاة، مررتُ بمبان مهجورة وشوارع مليئة بالذخائر غير المنفجرة، وشممت رائحة الخرسانة المحروقة واليأس، والتقيت أبناء وطني متمسكين ببقايا حياتهم السابقة.
في حي كرري بأم درمان، التقيتُ آسيا عبد الرحيم، البالغة من العمر خمسين عاما، كان إبريق الشاي المصنوع من الألومنيوم في يديها يلمع باهتا وهي تمسحه بحافة ردائها الأسود، وخلفها بقايا منزلها الطيني شاهدة صامتة على الحرب الدائرة.
"الليلة الماضية، تناولنا آخر كمية من دقيق الذرة، واليوم، كل ما لدينا هو الماء لملء بطوننا"، هكذا قالت لي، ويداها المتصلبتان ترتكزان على بطن طفل جائع.
كنت أدرك فظاعة قصة آسيا حتي قبل أن ترويها، لقد قُتل ابنها الأكبر قبل 14 شهرا جراء قصف مدفعي، وبسبب دمار منزلها تقيم الآن في كوخ على جانب الطريق من أغصان وقش لا يوفر مأوى حقيقيا، وتعمل في محل لبيع الشاي تحت وطأة القنابل المتساقطة، وأحفاد صغار يحتاجون للطعام.
"فنجان الشاي يباع بنحو 500 جنيه سوداني (نحو 20 سنتا أمريكيا في السوق الموازية)، ولكن من سيرغب في شرب الشاي تحت القصف؟" تساءلت آسيا بصوت عال، وبقي السؤال عالقا بيننا، ولم يكن لديّ إجابة.
في حي شمبات شمالا، التقيتُ نوال عبد الحفيظ (48 عاما)، التي كانت تجلس على حجر بارد وتُنظّف بهدوء أوانيها القديمة التي أحضرتها من ملجأ، عادت المرأة وأطفالها الأربعة لتوّهم من مدينة عطبرة بعد نزوحهم ليجدوا "لا أثر للحياة" سوى أنقاض حيث كان منزلهم قائما.
قالت لي "لم أستطع التعرّف على مكان منزلي"، كل يوم، كانت نوال تنقب بين الأنقاض، على أمل أن تجد بقايا من منزلها لتتمسك بها. وأضافت "ألبوم العائلة، خزانة الملابس المنحوتة، ألعاب الأطفال، حقائبهم المدرسية... كل شيء اختفى". الكنز الوحيد المتبقي هو صورة ممزقة لها ولزوجها المفقود.
همست والدموع تملأ عينيها "نفتقده كثيرا، نتوق إلى ذلك المنزل الدافئ، وندعو أن يكون لا يزال على قيد الحياة".
على بُعد كيلومتر شرقا، كان عمر، البالغ من العمر 80 عاما، والذي لم يكشف عن اسمه الكامل، يسقي شتلات البامية في فناء مليء بالحفر عندما قابلته، لقد فقد ابنه في الحرب، وهرب حفيده إلى مصر، وعاد هو إلى منزله وحيدا من ملجأ قرب مدينة الدامر، لا يحمل معه سوى بطانية ممزقة، ليجد أن الماء والكهرباء والخدمات اليومية لم تعد متوفرة في حيه.
كل يوم، يضطر عمر إلى جرّ جسده المنهك للحصول على وجبة طعام تقدمها منظمات خيرية، ويحصل علي الماء من على بُعد كيلومتر، وفي مرات يجمع الحطب للطهي.
"حفيدي يحب البامية"، همس، وإبريق الري يهتز بين يديه، "عندما تنمو هذه الشتلات، ربما يعود".
في سنه، ربما يكون صمت الوحدة أشد رعبا من الموت، غالبا ما يجلس عمر عند عتبة منزله ليلا، يستذكر الأيام الخوالي ويبكي وحيدا بينما تصفر رياح المساء عبر إطار نافذته المكسورة.
"أنا عجوز، لا أستطيع الحركة، ولا أريد أن أمشي بعد الآن"، قال عمر وهو يتنهد.
على مدى الأيام السبعمائة الماضية من عمر الحرب في بلادي، مشيت عبر الشوارع المدمرة ورأيت أرواحا بائسة، وقابلت آباء يحملون صور أبنائهم القتلى، وأمهات يبحثن بشكل يائس عن أبنائهن المنفصلين عنهن أثناء الهروب، وشبابا غائري العيون فقدوا عائلاتهم بأكملها في انفجار واحد.
مع دخولها العام الثالث في 15 أبريل، تسجل الحرب أرقاما مُذهلة .. أكثر من 29600 قتيل وأكثر من 15 مليون نازح، ونحو 25 مليون شخص يواجهون الجوع.
ووصف توم فليتشر وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية ومنسق الإغاثة الطارئة، الأزمة الإنسانية المستمرة في السودان بأنها أزمة غير مسبوقة "بحجم ووحشية مذهلة".
لكن هذه الأرقام لا تثير دهشة النازح علي مصطفى، عندما سأله ابنه الأصغر عن والدته، ولماذا يعيشون مع عائلة أخرى في خيمة صغيرة بولاية نهر النيل، أو متى يمكنهم العودة إلى ديارهم.
كما أن هذه الأرقام لا تعني شيئا أمام خوف حليمة آدم (من سكان الفاشر) من فقدان أطفالها الخمسة "في أي لحظة"، إذ يعيشون على وجبة يومية واحدة في ملجأ ضيق وخانق تحت الأرض حفروه بأنفسهم في الفاشر المحاصرة بالجوع والخوف والموت.
بعد عامين من هذه الحرب، أصبحت لكلمة (الخسارة) معان أخرى، فالخسارة نقيسها الآن بصور العائلة المفقودة، وبأطفال يتضورون جوعا، وبطريقة التقاط أصواتنا من بين الركام.
لا يزال الفيديو الذي شاهدته من جاري يطاردني في أحلامي، تلك الشخصيات الغامضة التي اقتحمت الغرف التي كانت ذات يوم تستقبل ضحكات أحبائي.
بينما أكتب هذا، يجاهد قلبي لقبول حقيقة واحدة: الحرب لا تسرق الأرواح فحسب، بل تسرق أيضا الدليل على أهميتها.
![]() |
![]() |
![]() |
انقلها الى... : |
China
Internet Information Center E-mail: webmaster@china.org.cn Tel: 86-10-88828000 京ICP证 040089号 京公网安备110108006329号 |