بديع الزمان الهمذاني...مخترع فن المقامات في القرن العاشر الميلادي (خاص)

بقلم شيرين تشيان*

الجزء الأول: ما هي المقامة ؟

18 نوفمبر 2014 / شبكة الصين / تمثل المقامة فناً من فنون الكتابة العربية التقليدية. وترجع بدايته الى نهاية القرن العاشر الميلادي في الدولة البويهية (934-1062). ومقامات بديع الزمان الهمذاني (969-1008) التي تشمل 52 قصة قصيرة يتنوع موضوعها هي أول كتاب ألف في هذا الفن. وكل مقامة همذانية يدور الحوار فيها بين شخصين: البطل الشحاذ البليغ اسمه أبو الفتح الإسكندري وراويه الساذج المسمى بعيسى بن هشام. وتبدأ كل مقامة بنفس الإسناد: "حدثنا عيسى بن هشام قال..."ثم يروي عيسى بن هشام لقاءه مع أبي الفتح الاسكندري في الأماكن المختلفة في البلاد الاسلامية. ولذلك حوالي خمسي المقامات الهمذانية سميت باسماء الأماكن. مثلا هناك "المقامة البغدادية" و"المقامة البصرية" و"المقامة البخارية" وغيرها. ودائما نجد أن البطل يتظاهر بهويات مختلفة حتى في بداية معظم المقامات أنكره الراوي الذي قد أصبح صديقا له وكان معجبا ببلاغته الفطرية وأدبه الرائع وحظه العاثر وكياده التي لا مثيل لها. لكن في نهاية المقامة تذكر عيسى أن الشحاذ المقنع هو الاسكندري بسبب بلاغته المتميزة. وفي كثير من الأحيان، أنشد الاسكندري قطعة قصيرة من الشعر قبل مغادرته من المشهد. ويمكننا تقسيم المقامة الهمذانية النموذجية الى سبعة أجزاء وهي: 1.الإسناد،2.المقدمة التي أخبرنا عيسى فيها بأنه جاء من مكان معين، 3.الجملة الرابطة بين المقدمة والحدث، 4.الحدث وهو أهم جزء في المقامة ويمكن أن يشمل حدثين أو أحداثا في مقامة واحدة، 5.مشهد التذكر، 6.الشعر النهائي، 7.النهاية التي افترق فيها الجانبان وجدير بالذكر أنه لا توجد النهاية الا في عشر المقامات الهمذانية فقط.

ويمكننا اعتبار المقامات كتابا عن رحلة عيسى بن هشام. ورغم أن الهمذاني كان لا يهتم بتصوير مفصل لأي مكان زاره عيسى والاسكندري وليست هناك صلة مباشرة بين موقع المقامة وموضوعها، ونستطيع الحصول على الكثير من الظروف المحلية والأحوال الاجتماعية والثقافية والدينية. وفي أكثر الأحيان، خصوصا في الجزء السادس "الشعر النهائي"، يخلط الهمذاني نقده الاجتماعي مع أبيات الاسكندري الساخرة. وسنتحدث في مقالة أخرى عن أن القرن ال13 شهد ظهور كثير من المخطوطات المصورة لمقامات الحريري- مقلد عظيم للهمذاني. ونرفق مع هذه المقالة واحدة من صورها الممتازة. ويعتقد مؤرخ الفن ريتشارد أيتينهوسن (Richard Ettinghausen) أن رسام وخطاط المخطوطات قد اقتبس عناصر موجودة في مسرح العرائس وخيال الظل لأن هذه الأنماط الفنية الثلاثة يمكن إرجاع تاريخها الى جذر موحد. ومع أن مقامات الهمذاني لم تكن موضوعا لأي مخطوطة مصورة خلال الف سنة، فمن الواضح أن المقامات تحمل عناصر تمثيلية وخصوصا في "المقامة القردية" وهي أقصر مقامات الهمذاني. فاسمحوا لنا أن نقتبسها بالكامل لكي تتعرفوا على الأجزاء الرئيسية (نحن نعلم الأجزاء المختلفة بالأرقام لمعلوماتكم) في المقامة وعلى عناصرها التمثيلية.

1.حَدَّثنَا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: 2.بَيْنَا أَنا بِمَديِنَةِ السَّلامِ، قَافِلاً مِنَ البَلَدِ الحرَامِ، أَمِيسُ مَيْسَ الرِّجْلَةِ، على شاطئِ الدِّجْلَةِ، 3.أَتَأَمَّلُ تِلْكَ الطَّرَائِفَ، وَأَتَقَصَّى تِلْكَ الزَّخَارِفَ، 4.إِذْ انْتَهَيْتُ إِلَى حَلْقَةِ رِجَالٍ مُزْدَحِمِينَ يَلْوي الطَّرَبُ أَعْنَاقَهُمْ، وَيَشَّقُ الضَحِكُ أَشْداقَهُمْ، فَسَاقَنِي الحِرصُ إِلى مَا ساقَهُمْ، حَتَّى وَقَفْتُ بِمَسْمَعِ صَوتِ رَجُلٍ دُونَ مَرأَيَ وَجْهِهِ لِشِدَّةِ الهَجْمَةِ وَفَرْطِ الزَّحْمَةِ، فَإِذَا هُوَ قَرَّادٌ يُرْقِصُ قِرْدَهُ، وَيُضْحِكُ مَنْ عِنْدَهُ، فَرقَصْتُ رَقْصَ المُحَرَّجِ، وَسِرتُ سَيْرَ الأَعْرَجِ، فَوْقَ رِقَابِ النَّاسِ يَلْفِظُنِي عَاتِقُ هَذا لِسُرَّةِ ذَاكَ، حَتَّى افْتَرَشْتُ لِحَيَةَ رَجُلَيْنِ، وَقَعَدْتُ بَعْدَ الايْنَ، وَقَدْ أَشْرَقَنِي الخَجَلُ بَرِيقهِ، وَأَرْهَقَنِي المَكانُ بِضِيِقِهِ، 5.فَلَمَّا فَرَغَ القَّرادُ مِن شُغْلِهِ، وانْتَفَضَ المَجْلِسُ عَنْ أَهْلِهِ، قُمْتُ وَقَدْ كَسَانِي الدَّهَشُ حُلَّتَهُ، وَوَقَفْتُ لأَرَى صُورَتَهُ، فَإِذا هُو واللهِ أَبو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ، 6.فَقُلتُ: مَا هَذِهِ الدَّنَاءَةُ وَيْحَكَ، فَأَنْشَأَ يَقُولُ:

الـذَّنْـبُ لِـلأَيَام لاَ لِــي *** فَاعْتِبْ عَلَي صَرْفِ اللَّيالِي

بِالحْمْقِ أَدْرَكْتُ الـمُـنَـى *** وَرَفَلْتُ فَي حُلَلِ الجَمَـالِ

من الواضح أن المقامة القردية تشمل تقريبا كل الأجزاء الرئيسية مع قصر طولها. ونلاحظ أن المتن فيه علامات التشكيل كما توجد في القرآن الكريم. وسنتحدث في المقالة التالية عن مخترع هذا النمط الأدبي وسجع المقامات.

 

_______________

* حاصلة على درجة الدكتوراه في الدراسات العربية والإسلامية من جامعة بنسلفانيا