الصفحة الأولى | اطبع | أرسل لصديق | أضف إلى المفضلة | اتصل بنا | حجم الخط أ أ أ |
نبوءة نابليون (خاص)
بقلم: عبد الله السناوي رئيس التحرير السابق لجريدة ((العربي الناصري)) المصرية
15 يوليو 2011 / شبكة الصين / برؤية إستراتيجية نافذة، أطل "نابليون بونابرت" على المشهد الصيني في القرن الثامن عشر، و بدا له أن ما يبدو خاملاً يمكن أن يتحول إلى حركة فوارة، وأن القوة الكامنة في الصين تجعلها "مارداً جباراً، إذا استيقظ هز العالم". وبذات الرؤية الإستراتيجية، قال نابليون: "مصر أهم بلد في العالم، من يسيطر عليها يحكمه." رؤية نابليون تبدو - الآن- كنبوءة عابرة للقرون، فالصين استيقظت وهزت العالم، و تجربتها التنموية تتماهى مع المعجزة، وتوشك أن تتصدر المركز الأول عالمياً خلال سنوات قليلة مقبلة. كما تبدو– الآن- رؤيته المصرية كنبوءة أخرى، فالصراع على مصر وحولها هو في حقيقته صراع على القوة والنفوذ والهيمنة على منطقتها. وفي الخمسينيات والسيتينيات من القرن الماضي تداخلت على نحو مثير المصائر المصرية والصينية ضمن الصعود التاريخي لحركة التحرر الوطني. ولعبت مصر، تحت قيادة جمال عبد الناصر، دوراً محورياً في كسر الحصار عن المارد الصيني، غير أنه في أوقات لاحقة تراجع الدور المصري بصورة مؤلمة، وعادت مصائر المنطقة إلى قوى الهيمنة، وتلخصها عبارة الرئيس المصري الأسبق أنور السادات: "إن ٩٩٪ من أوراق اللعبة في يد الولايات المتحدة الأمريكية".
الأمم الحية وحدها هي التي تتعلم من تجارب التاريخ، وتنظر باحترام إلى تجارب الآخرين، وتستلهم روحها دون أن تنقلها بتفاصيلها إلي دفاترها الخاصة. وهذه أول دروس "المعجزة الصينية"، التي نحتاج في مصر إلى التوقف أمامها طويلاً وملياً. من تعاليم ماو تسي تونغ، زعيم الثورة الصينية ومؤسس دولتها الحديثة، "أننا يجب أن ننظر باحترام إلى تجارب الشعوب الأخرى التي دفعت ثمنها عرقاً ودماً، ولكننا يجب أن ننظر باحترام أكبر إلى تجاربنا نحن التي دفعنا ثمنها من عرقنا ودمنا". ومشكلتنا في مصر، في قلب العالم العربي، أن الفجوات في الذاكرة التاريخية اتسعت، وجرى التنكر على نطاق واسع لمعارك كبرى خاضتها بلادنا، ودفعت ثمناً فادحاً، انتصرت وانكسرت، ولكنها كانت على الجانب الصحيح من التاريخ. والمأساة أنها تراجعت بينما كان يمكنها أن تتقدم. ومن حسن حظ الصين- إن كان الحديث عن الحظ مناسباً في مقام التاريخ ودروسه- أنها أدركت أن التطور داخل نظامها السياسي، وإحداث تعديلات جوهرية على بنيتها الاقتصادية، لا يعني- بالمرة- التنكر لمواريث التاريخ ومعاركه الكبرى، وها هي اليوم تحتفل بذكرى تأسيس حزبها الشيوعي، رغم أنها لم تعد اليوم تتبني ذات المفاهيم السياسية والتنظيمية التي صاحبت تأسيسه، وهذا تطور طبيعي في مجرى التاريخ، فلو أن الأفكار تكلست عند مرحلة معينة، أو أضفيت عليها قداسة لا تعرفها حركة التاريخ المتغيرة، ما كان ممكناً أن تنتقل الصين مرحلة بعد أخرى، إلى قلب المعجزة.
لا شيء يولد من فراغ، وللصيني حس تاريخي عميق وقديم، بعمق وقدم الحضارة الصينية ذاتها، والحكمة المتوارثة عنده جعلته مستعداً، بطول نفس وقدرة على الصبر، أن ينتظر جثة عدوه طافية عند حافة النهر.
وللتاريخ مفاجآته، ولكن للتحولات الكبرى مقدماتها. من مقدمات "المعجزة الصينية" القدرة على العمل الشاق والاندفاع إلى الأمام من مرحلة إلى أخرى وفق حسابات معقدة يصعب أحياناً فهمها خارج الصين. فالصيني- مثل أبناء الحضارات العريقة- يدرك بحسه التاريخي بأن للصبر حساباته وللثورة مواقيتها. وقد عرفت مصر في الستين عاماً الماضية ثورتين كبيرتين، الأولى، قامت بها طليعة من القوات المسلحة وأيدها الشعب عام ١٩٥٢، والثانية، قامت بها قطاعات شعبية واسعة وأيدتها القوات المسلحة. الثورة الأولى، نجحت بصورة هائلة في تغيير معادلات المنطقة وحسابات القوة في العالم الثالث، ولعبت دوراً محورياً - بزعامة "جمال عبد الناصر"- في تأسيس حركة "عدم الانحياز"، والاعتراف بالصين الشعبية، وفتح أبواب العالم الثالث أمامها، ويبقي التحدي الأكبر أمام الثورة الثانية (٢٥ يناير ٢٠١١) أن تتحدى استراتيجيات الهيمنة على المنطقة، وأن تستعيد الدور القيادي المصري فيها. عند هذه الانعطافة، تبدو مصر في حاجة إلى سد فجوات تاريخها، وأن تنظر إليه باحترام، حتى تدرك لماذا انتصرت عندما انتصرت ولماذا انكسرت عندما انكسرت. ومن حسن حظ الصين- إن كان الحديث عن الحظ مناسباً مرة أخرى في مقام التاريخ ودروسه- أنها أدركت مبكراً أن احترام التاريخ الوطني وعدم التنصل منه والاستفادة من دروسه شرط ضروري لمواصلة القدرة على النهوض.
في التجربة الصينية الحديثة بقيادة ماو تسي تونغ وشو ان لاي بدا أن ثمة تزاوجاً نادراً بين "الحزب" و"الجيش" و"الثورة" تزاوجاً آخر بين قيادة تاريخية استثنائية لها القدرة على الإلهام والحشد والتعبئة وصياغة الأفكار بصورة تجمع بين الأيديولوجية والعملية، عبر عنها "ماو"، وقيادة تاريخية أخرى اطلعت، من خلال الدراسة في فرنسا، على العصر الجديد وحقائقه عند بدايات القرن العشرين، ولها موهبة تحديد الاتجاه وبناء الدول، وعبر عنها "شو". وربما كان من مكامن ضعف التجربة المصرية أنه كان لديها الزعامة التاريخية "ناصر" دون أن يكون لديها "شو".
في لحظة من تاريخ الصين الثوري، أثناء ثورتها الثقافية في الستينيات، تعرض "شو" و رفاقه إلي فترات عصيبة، وعندما تراجعت الصين عن شطط الثورة الثقافية، في عهد "ماو" نفسه، فإن تلك القوى التي كانت متهمة في إخلاصها للاندفاع الثوري، تولت ضخ أفكار جديدة نقلت الصين إلى آفاق القوى العظمى، دون أن تنتقم من الماضي الثوري أو تتنكر لمعاركه، أو تنسي فضل "ماو" العظيم على الصين.
في مطلع سبعينيات القرن الماضي، قام الأستاذ "محمد حسنين هيكل" على رأس وفد من صحيفة ((الأهرام)) التي كان يرأس تحريرها، بجولة في آسيا، تصدرتها الصين. في "الأحاديث الآسيوية"، بدا "هيكل" مأخوذاً بما عاين ورأى في الصين، ووصف المشهد الجديد بـ"المعجزة". سألته بعد هذا الزمن الطويل: "إذا كنت قد وصفت ما رأيت وعاينت في الصين منذ أربعين عاماً بأنه معجزة، فما هو الوصف المناسب لما وصلت إليه الآن؟" قال بلا تردد "ما بعد المعجزة".
تعليق |
مجموع التعليقات : 0 |