الصفحة الأولى | اطبع | أرسل لصديق | أضف إلى المفضلة | اتصل بنا | حجم الخط أ أ أ |
الصين في العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين-- قليل من الفرص..مزيد من التحديات
بقلم: حسين إسماعيل
بدأت الصين هذه السنة،2011، تنفيذ "الخطة الخمسية الثانية عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية" التي تحدد توجهات الصين الداخلية والخارجية لمدة خمس سنوات تكتمل بنهاية سنة 2015، أي حتى منتصف العقد الثاني للقرن الحادي والعشرين.
والحقيقة أن الخطة، التي وصفتها أجهزة إعلام خارجية بأنها خلت من المفاجآت، جاءت موضوعية واقعية ومعبرة بصدق عن حال الصين وأهدافها على ضوء إمكاناتها المتاحة، وعلى ضوء قراءة المحيط الدولي والإقليمي للدولة التي يرى عدد غير قليل من المحللين السياسيين أنها القوة العظمى القادمة. يقول مايكل كلير في كتابه ((2020، رد فعل الأثر السلبي" (The blowback effect, 2020)، إذا كانت الصين عملاقا اقتصاديا اليوم، فإنها ستصبح قوة في سنة 2020. وفقا لوزارة الطاقة الأمريكية، سيقفز الناتج الإجمالي المحلي للصين من 3ر3 تريليونات دولار أمريكي في سنة 2010 إلى 1ر7 تريليونات في سنة 2020 (بسعر الدولار الأمريكي في سنة 2005). في ذلك الوقت سيفوق حجم إجمالي ناتج الصين المحلي كل الناتج المحلي الإجمالي لكل دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط. وسوف تنتج الصين، بمرور الوقت، منتجات أكثر تطورا وتعقيدا، ومنها أنظمة طاقة خضراء ونقل مناسبة لاقتصادات ما بعد الكربون المستقبلية. وسوف يعطيها ذلك نفوذا دوليا متزايدا.
المتابعون للشأن الصيني، والعارفون بتفاصيل جغرافية وتاريخ وواقع وفكر وثقافة الصين، يعلمون أن التنين الصيني يواجه في السنين الخمس القادمة، التي يتخللها عام التنين سنة 2012، انعطافة تاريخية لا تقل في مصاعبها ومخاطرها عن السنوات الخمس الأولى لسير الصينيين على درب الإصلاح والانفتاح، في بداية ثمانينات القرن العشرين. ولعل كثيرين، ممن ينظرون إلى ظواهر الأمور ولا يتعمقون في بواطنها، يرون أن الصين "قوة عظمى" في طور التكوين وما هي إلا سنوات قلائل وتجاوز الجميع وتحتل الصدارة في كل شيء؛ فالصين هي ثاني أكبر اقتصاد في العالم ومحرك نمو الاقتصاد العالمي، والجهود التي بذلتها الحكومة الصينية لإقالة اقتصادها من عثرته الناجمة عن الأزمة المالية العالمية، ساهمت كثيرا في تحجيم الآثار السلبية لأعنف هزة اقتصادية شهدها التاريخ الحديث منذ الانكماش الاقتصادي في ثلاثينيات القرن العشرين. كما أن الصين طرف رئيسي في القضايا الدولية ذات البعد الكوني ومنها قضية تغير المناخ والانبعاثات. والصين عضو في نادي الفضاء الدولي، بعد أن نجحت خلال العقد الأول للقرن الحادي والعشرين في غزو الفضاء بمركبة غير مأهولة ثم بمركبة مأهولة برائدي فضاء، وإطلاق مسبار غير مأهول إلى القمر. الصين، الدولة الأكثر سكانا في العالم، وبها أكبر عدد من مستخدمي شبكة الإنترنت وهي ثاني أكبر مستهلك للطاقة في العالم وأكبر دولة مصدرة للسلع، وهلم جرا من الأرقام التي تضع الصين في الترتيب العالمي الأول والثاني.
بيان الدورة الكاملة الخامسة للجنة المركزية السابعة عشرة للحزب الشيوعي الصيني في الثامن عشر من أكتوبر سنة 2010، أكد أن فترة الخطة الخمسية الثانية عشرة هي فترة حاسمة لبناء المجتمع الذي يسميه الصينيون "شياوكانغ"، والذي يمكن ترجمته عربيا بمجتمع رغد العيش على نحو شامل. والمقصود هنا حالة بين الوفرة والكفاف، يتمتع فيها الفرد بالرغد (الرغد من العيش هو الكثير الواسع الذي لا يُتعَب فيه: المعجم الوسيط). وإذا كان البعض، خارج الصين، يمرون على مثل هذا التعبير مرور الكرام، فإنه بالنسبة للقيادة الصينية أمر جاد، بل واسترايجية وفكر للحزب الذي يقود البلاد منذ أكثر من ستين عاما.
تهدف الخطة الخمسية الثانية عشرة إلى "تثبيت البناء الاشتراكي" و"تحسين نظام الخدمات العامة الأساسية"، و"خلق مزيد من فرص العمل" و"إيجاد علاقات عمل متناغمة" بهدف ضبط توزيع الدخل بشكل معقول و"المعالجة الصحيحة للتناقضات بين المواطنين"، و"اتخاذ تدابير مادية لضمان التناغم والاستقرار الاجتماعي". هذه الأهداف تعبر في الحقيقة عن التحديات الجمة التي تواجهها الصين في سنواتها المقبلة. لقد انطلقت الصين خلال ثلاثين عاما ونيف بسرعة عالية، واستنفدت قدرا غير قليل من قوتها ومواردها وإمكانياتها. كانت الصين مضطرة للاندفاع بهذه القوة لتعويض ما فاتها خلال قرون عديدة سبقت تأسيس جمهورية الصين الشعبية، وفي ركب هذا الاندفاع الذي ارتقى بها مدارج عالية في اقتصاد وسياسة وعلوم وفكر وثقافة العالم أٌهملت قضايا ووطئت مشاكل دون الالتفات إليها.
إن فترة "خطة التنمية الاقتصادية والاجتماعية الخمسية الثانية عشرة" فترة مراجعة حسابات وتأكيد للمزايا وتجاوز الأخطاء، وتلك مهمة جد عصيبة، بعد أن حققت الصين ما وصفه كثيرون بالقفزات. لم يعد باستطاعة الصين أن "تقفز"، وربما سيكون إنجازها الأعظم أن تحافظ على ما تحقق وأن تتقدم بخطى ثابتة. ولعل أهم التحديات التي تواجهها الصين في السنوات القادمة، هي أولا، الحفاظ على بيئة الاستقرار والسلام على الصعيدين الداخلي والخارجي. فمن المعلوم أن ثمة قوى دولية تسعى إلى حصار وتطويق التنمية الصينية عبر أدوات داخل الصين وعلى تخومها. ونحن نتذكر أحداث الشغب التي شهدتها منطقة التبت الذاتية الحكم في الصين في الرابع عشر من مارس سنة 2008، والأيدي الخارجية التي غررت بشباب الصين من القومية التبتية وحركتهم لزعزعة استقرار بلادهم. وقد تكرر ذات السيناريو في شهر يوليو سنة 2009 بمدينة أورومتشي، عاصمة منطقة شينجيانغ الويغورية الذاتية الحكم، عندما قامت مجموعة من شباب قومية الويغور، بتضليل من قيادات ويغورية خارجية، بأعمال عنف وتخريب في عاصمة منطقتهم الذاتية الحكم. وقبل أن تلملم سنة 2010 أطرافها، فاجأت لجنة جائزة نوبل العالم بمنح جائزة السلام لرجل صيني لم يقدم شيئا في حياته من أجل سلام وطنه أو سلام العالم، وأعظم إسهاماته أنه دعا إلى أن تقوم قوة خارجية باستعمار بلاده ثلاثة قرون لكي تحقق الصين تحولا تاريخيا حقيقيا! إن لم يكن ما أنجزته الصين ومازالت تنجزه تحولا تاريخيا، فما هو التحول التاريخي إذاً؟
على تخوم الصين، مازالت لعبة الشطرنج والاحتواء مستمرة، ولعل آخر فصولها ما حدث في شبه الجزيرة الكورية قبل انصرام العام الماضي بأسابيع عندما تدهورت الأوضاع بين شطري الجزيرة التي قسمتها نيران الحرب الباردة، ولاحت في الأفق نذر مواجهة مسلحة. وقد تجلت حكمة الصين في تعاملها مع الموقف، حيث حثت بكين كلا من سول وبيونغ يانغ على التزام ضبط النفس والنظر بعين الاعتبار إلى سلامة الشعب و"السلام الإقليمي"، واستئناف المحادثات. ودعت الناطقة باسم وزارة الخارجية الصينية جيانغ يوي في الثالث عشر من ديسمبر 2010 الأطراف المعنية إلى وضع سلامة أبناء الشعب والسلام والاستقرار في شبه الجزيرة على قمة أولوياتها. أعربت الصين عن معارضتها لدخول حاملة الطائرات الأمريكية جورج واشنطن إلى مياه البحر الأصفر، ولكن الصين لم "تنفعل" ولم يصدر عنها سلوك متهور.
في الخارج، تواجه الصين أيضا تحديا من نوع خاص: "أن تتحمل مسؤولياتها الدولية". وكلمة مسؤوليات هنا مطاطية غير محددة المعالم، ولكن عواصم كثيرة أمست تستخدمها لأغراض مختلفة. والحقيقة أن الصين، مع تواصل نمو اقتصادها وتوسع فضائها الاستراتيجي، تتحمل المزيد من المسئوليات الدولية، بمبادرة ذاتية أحيانا. الصين التزمت بتخفيض نسبة الانبعاثات فيها بنسبة عالية خلال فترة زمنية محددة. الصين، بمبادرة ذاتية أيضا، وضعت خطة استراتيجية لتنويع مصادر الطاقة لتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري الذي تنضب منابعه يوما بعد يوم، الصين أرسلت قطعا من أسطولها إلى مياه البحر الأحمر للمشاركة في الجهود الدولية لحماية السفن العابرة من عمليات القرصنة على الشواطئ الصومالية، الصين أسهمت بأشكال مختلفة في تجاوز تداعيات الأزمة المالية العالمية، الخ من مساهمات الصين في قضايا عالمية مختلفة. ولكن البعض مازال يرى أن الصين عليها تحمل المزيد من المسؤوليات كدولة "متقدمة". التحدي هو أن تستطيع الصين إقناع العالم بأنها مازالت دولة نامية وأن ما يناط بها من مسؤوليات ينبغي أن يكون في حدود استطاعتها؟ إن البديل هو أن تقع الصين في شَرَك "القوة العظمى" الذي يُنصب لها، فتقدم على أعمال وربما "مغامرات" تستنزف طاقتها وتجهض مسيرة تنميتها.
على الصعيد الداخلي، تواجه الصين معضلة "العدالة الاجتماعية". إن أكثر ما يهدد الصين هو أن يشعر مواطنوها بالغُبن الاجتماعي، وتحديدا عدم عدالة توزيع الثروة. تواجه الصين خلل توزيع الثروة على المستوى الفردي وعلى المستوى الإقليمي. لقد أتاحت سياسة الإصلاح والانفتاح لكثير من الصينيين وللعديد من مناطق الصين تحقيق التقدم والثراء بمعدلات عالية، جعلت فجوة الثروة تتسع بين أبناء المنطقة أو المدينة الواحدة، وبين المناطق المختلفة أيضا. لقد جاءت "الخطة الخمسية الثانية عشرة" شديدة الواقعية عندما وضعت تحسين مستوى المواطنين على قمة أولوياتها، والتحدي هو: إلى أي مدى يمكن أن تنجز الصين مهمة تقليل فجوة الدخل والثراء بين أبناء شعبها؟
التحدي الآخر الذي تواجهه الصين هو تحدي "الموارد". بعد ثلاثة عقود ونيف من التنمية، تحتاج الصين مزيدا من الموارد. وقد صارت الصين تستورد نحو 55% من وقودها من الخارج، مثلا. إن الاستخدام الجائر للموارد في داخل الصين خلال الفترة الماضية يفرض ترشيد استخدام تلك الموارد. ويحدد كتاب ((استراتيجية الصين لتأمين الموارد الطبيعية.. المخاطر، الأخطار والفرص)) للاقتصادي ثيودور موران، الباحث بمعهد بيترسون للاقتصاد الدولي في واشنطن دي سي، جملة من المشاكل التي تواجه الصين لتأمين احتياجاتها من الموارد الطبيعية خلال السنوات القادمة. والتحدي هو: كيف تحافظ الصين على معدلات نمو اقتصادي معقولة مع ترشيد استخدام مواردها الداخلية ودون الدخول في خلافات مع أطراف خارجية بسبب الموارد الطبيعية؟
هل هذه كل التحديات التي تواجه الصين؟ بالطبع لا، إنها مجرد عينة.
تعليق |
مجموع التعليقات : 0 |