ثمار الإصلاح والانفتاح و ثلاثون عاما من النجاح في الصين
بقلم رضا صامت
رضا صامت، رئيس نادي مستمعي إذاعة الصين الدولية ورئيس نادي قراء مجلة ((الصين اليوم)) بتونس، زار الصين مرتين في فترة الإصلاح والانفتاح الصيني، فرأى بعينيه ما هي التغيرات التي شهدتها الصين في هذه الفترة ونشرت هذا المقال مجلة ((الصين اليوم)) في عدد نوفمبر من عام 2008.
عندما زرت الصين عام 1987 كانت في طور البناء والتشييد، وعاودت الزيارة عام 2005 وعشت أياما حلوة في الصين التي واكبت التغيرات ونجحت وأبهرت العالم بالمنجزات والمشاريع التي حققتها بفضل الإصلاح والانفتاح.
كانت"تجربة جديدة" من الإصلاح والانفتاح، كلما ترسخت كلما خلصت الصين من الانغلاق والتقوقع الذي كانت عليه وسارت بها على طريق التقدم العلمي والتقني بخطى ثابتة لا تتزعزع.
إننا نحن الذين أتينا من العالم الثالث، وكل من أحب الصين وشعبها، انتابنا الكثير من القلق والمخاوف؛ تساؤلات واستفسارات حول اتجاه سير الصين ومصيرها، وعما إذا كانت هذه التغيرات بداية الاستسلام للرأسمالية والخنوع لهذا القانون الدولي غير العادل واللامعقول والعولمة، والانقلاب على الاشتراكية. وفي المقابل كان المتربصون شرا بالصين يهللون ويصفقون لهذه التغيرات التي ستلحق الصين في ركابهم الرأسمالي، مفككة ضعيفة مثقلة بالهموم. إلا أن سلامة ونجاع السياسة التي رسمها الزعيم الراحل دنغ شياو بينغ أثبتت عدم صحة قلق الأصدقاء وتربص الأشرار، حيث ودعت الصين وشعبها الفقر والتخلف وسارت نحو طريق التقدم.
البداية كانت صعبة وقاسية. لقد دفع دنغ شياو بينغ ثمنا باهظا نتيجة أفكاره التقدمية والإصلاحية، وعانى الكثير في بداية سبعينات القرن الماضي على يد عصبة الأربعة المتنفذة في السلطة والحزب. كيف لا، وقد جُرد من جميع صلاحياته الحزبية إثر مقالته المشهورة التي دعا فيها إلى شحذ طاقات الشعب الخلاقة وكفاءة ومواهب العلماء والمثقفين بعيدا عن التمييز في الانتماء الفكري، ونادى بشعار كل شيء من أجل رفعة الشعب والوطن، وبضرورة العمل والعطاء، فمن عمل لذاته عليه أن يخدم الدولة والشعب، ومصلحة الدولة من مصلحة الفرد والشعب. الفرد يخدم الكل والكل يخدم الفرد.
لقد شخص دنغ أحوال الصين الذاتية والأوضاع الدولية بمجهر ثاقب، واستخلص بأن الاشتراكية لا غيرها هي طريق الخلاص لشعب يُعد خُمس البشرية يضم 56 أقلية قومية، عانى الظلم والفقر والاضطهاد، ولدولة مترامية الأطراف عانت ويلات الانقسام والتجزئة والاحتلال الأجنبي طمعا في ثرواتها الطبيعية الغنية. وأوضح أن الاشتراكية لا تعني الفقر أبدا، ولا بد من بناء مجتمع اشتراكي يتفق مع الأحوال الذاتية للصين- مجتمع اشتراكي ذو خصائص صينية- ووضع مفاهيم جديدة في العلوم الاجتماعية، وحدد معالم الطريق الذي ستسلكه الصين في سياسة الإصلاح والانفتاح. وأصبحت هذه النظرية، نظرية الانطلاق من الظروف والأحوال الموضوعية، مقياسا لكل الأعمال والنشاطات الصينية في جميع المجالات، السياسية والاقتصادية والتقنية والثقافية والعلمية، وعلى كل الأصعدة الداخلية والخارجية، فبناء اشتراكية ذات خصائص صينية يتطلب سعة بال ونظرة "إصلاح" واسعة النطاق لاستكمال وتطوير النظم والقوانين القائمة بما يضمن ديمومة التنمية الاقتصادية والتطور الاجتماعي. وكلما تواصلت الإصلاحات وتعمقت كلما ازداد النمو والتقدم، فلا إصلاح بدون تنمية ولا تنمية بدون إصلاح. كما أن الإصلاح لا يستطيع التقدم على عجلة واحدة، فعجلته الثانية هي الانفتاح الهادف إلى جذب التكنولوجيا الأجنبية المتقدمة وكسب التجارب الإدارية والنتاج الثقافي للدول الأخرى بما يعزز القوة الوطنية الشاملة للصين. الإصلاح يشكل قوة دفع للانفتاح، بينما الانفتاح يشكل حافزا للإصلاح، فلا يمكن فصلهما عن بعضهما. وهما معا يشكلان شرطا لتحقيق اشتراكية ذات خصائص صينية.
إن الإصلاح والانفتاح عملية إبداعية لم يشهد التاريخ مثيلا لها، وعملية محفوفة بالمخاطر والمشقات، وغير محكومة بفترة زمنية، إنها عملية متجددة لا نهاية لها؛ الجديد منها يحل مكان القديم، خاصة وأن الصين الجديدة، وبصفتها دولة اشتراكية، ورثت أسلوب البناء الاقتصادي عن الاتحاد السوفيتي السابق، متخذة من الاقتصاد المخطط والإدارة المركزية أساسا. على ضوء نظرية دنغ، دشنت حركة الإصلاح صفحتها الأولى في المجال الاقتصادي وفقا لما ظل يُنادى به ويُؤكَد عليه في الأُطر الحزبية، على أن تكون للتنمية "الأولوية المطلقة".
أمام ذلك دعا دنغ إلى العمل على تكريس وتطوير ما هو صائب ونبذ ما هو خاطئ، وطرَحَ بشجاعة فكرة إمكانية تطبيق اقتصاد السوق الاشتراكي، مؤكدا أن فكرة وجود اقتصاد السوق في المجتمع الرأسمالي فقط غير صحيحة تماما، متسائلا عن سبب عدم تطبيق اقتصاد السوق في المجتمع الاشتراكي.
على ضوء هذه الأفكار الخلاقة، انطلق قطار الاقتصاد الصيني بسرعة صاروخية من محطة نائية وفقيرة، وبالتحديد من شنتشن، تلك القرية الصغيرة النائية التي تعيش على صيد الأسماك في جنوبي الصين مقابل جزيرة هونغ كونغ، حيث أدرجها دنغ عام 1980 ضمن المناطق الاقتصادية الخاصة للاستفادة من الميزة النسبية التي تتمتع بها جغرافيا، فراحت تطبق السياسات التشجيعية حتى عادت مضرب المثل على نجاح سياسة الإصلاح والانفتاح، ونموذجا حيا للتقدم الاجتماعي والازدهار الاقتصادي والتقني. وعلى إثر التجارب والإنجازات التي تحققت، تم توسيع المناطق الاقتصادية الخاصة المنفتحة على العالم الخارجي لتشمل أربع مدن ساحلية، ثم أربع عشرة مدينة. وهكذا انطلقت عملية الإصلاح والانفتاح من مدينة إلى مدينة ومن منطقة إلى منطقة، حيث بدأت في المدن الساحلية وامتدت واتسعت إلى داخل البر الصيني، وصولا في نهاية المطاف إلى بناء نظام اقتصاد السوق الاشتراكي. وبذلك أصبح بناء وإكمال نظام اقتصاد السوق الاشتراكي هدفا لإصلاح الاقتصاد الصيني، فأطلق العنان للمنافسة الإيجابية والحث على تحرير الأفكار لخلق مفاهيم جديدة للتنمية. ومن ناحية أخرى، الصين وكونها دولة زراعية يشكل الفلاحون فيها الأكثرية السكانية، اهتمت في وقت مبكر وبشكل خاص بعملية إصلاح النظام الزراعي حيث تم تحويل نظام الإنتاج الجماعي إلى نظام المسؤولية الأسرية التعاقدية المرتبطة بالإنتاج، الأمر الذي ساعد على تجديد ملامح الأرياف وحيويتها، وعاد بالخير والمنفعة الكبيرة على الفلاحين ورفع مستوى حياتهم. بذلك أثبتت الممارسات الواقعية أن طريق الإصلاح والانفتاح هو الطريق الذي ينبغي السير عليه لتقوية البلاد وإنهاض الأمة وإثراء الشعب، فدخل قلوب المواطنين وعاد تيارا لا يقاوم.
عملية الإصلاح والانفتاح لم تكن عملية اعتباطية، بل نظرية إبداعية غير مسبوقة واضحة المعالم والأبعاد والنتائج، مبرمجة ومصممة بدقة وشمولية بما يتفق والمعطيات المحلية والدولية. إلا أن البرمجة والتصميم بحاجة إلى تطبيق وتنفيذ سليمين، من هنا تأتي الصعاب والمخاطر، وليس فقط من صحة النظرية أو عدمها. إنها أشبه بالصعود إلى قمة جبل شاهق ومتعرج ماثل أمامنا وواضح وضوح الشمس، كجبل جينغقانغ أو تايشان مثلا، بحاجة إلى توفير كل مقومات الوصول إلى القمة على الرغم من تضاريسه الصعبة والمعقدة، وليس بعملية مقامرة. من هنا جاءت نظرية دنغ التي شبهت العملية كمن يريد عبور نهر في قاعه أحجار. دعا دنغ إلى تثبيت القدم الأولى على الحجر بشكل مستقر لتكفل تحمل ثقل الجسم كله عند نقل القدم الأخرى لتلامس الحجر الذي يليه وهكذا دواليك. فعلا استطاع الشعب الصيني أن يسير بخطى ثابتة ومتوازنة على طريق التنمية الاقتصادية والتقدم الاجتماعي. وبعد كل فترة أو إنجاز تجرى عملية فحص لإيجابياتها وسلبياتها، ويتم تعزيز وتطوير ما هو إيجابي ونبذ السلبيات والتخلص منها.
يمكن ملاحظة مجمل الخطة التنموية الصينية وأهدافها من خلال خطة "المراحل الثلاث" لإستراتيجية التنمية الاقتصادية وأهدافها التي طرحها المؤتمر الوطني الثالث عشر للحزب الشيوعي الصيني بصورة واضحة في أكتوبر 1987:
المرحلة الأولى: عقد الثمانينات، التنمية الاقتصادية والاستقرار الاجتماعي، حيث ضاعفت الصين إجمالي الناتج المحليGDP، وحلت مشكلة الكساء والغذاء للشعب الصيني.
المرحلة الثانية: عقد التسعينات، ضاعفت مرة أخرى إجمالي الناتج المحلي، وحققت حياة رغيدة للشعب الصيني.
المرحلة الثالثة: تمتد حتى أواسط القرن الحادي والعشرين، حيث سيصل متوسط نصيب الفرد الصيني من إجمالي الناتج المحلي إلى مستوى الدول متوسطة التطور، بما يمكن الشعب الصيني من العيش حياة غنية نسبيا، ويتحقق تحديث البلاد بشكل أساسي.
"بناء مجتمع متناغم وغني متكامل"
هذا وقام المؤتمر الوطني الخامس عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في ديسمبر عام 1997 بزيادة توضيح هدف المرحلة الثالثة المذكورة: خلال العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ينمو إجمالي الناتج المحلي الصيني بضعف واحد بالمقارنة مع عام 2000، ويتضاعف مرة أخرى في العقد الثاني (2020) عما سيصل إليه في العقد الأول، وسيبلغ متوسط نصيب الفرد منه 3000 دولار أمريكي. ويعيش يومها الشعب الصيني عيشة أكثر ثراء ورفاهية، وتتم إقامة نظام اقتصاد السوق الاشتراكي المتكامل نسبيا. وبالجهود الجادة المبذولة في العقد الثاني من القرن الحالي شرع الاقتصاد الوطني الصيني ينمو بشكل أسرع وأفضل كما ستشهد مختلف الأنظمة مزيدا من التحسن والاستكمال. وفي عام 2050 سيتحقق تحديث البلاد بشكل أساسي، وتصبح الصين حينئذ دولة اشتراكية ديمقراطية قوية وحضارية. وأكد المؤتمر الوطني السادس عشر للحزب الشيوعي الصيني الذي عقد في نوفمبر 2002 على ضرورة تطبيق خطة "المراحل الثلاث" بصورة صحيحة وحشد كل الإمكانيات المتاحة لبناء مجتمع صيني ميسور متكامل ينعم بخيراته 3ر1 مليار نسمة من أبناء الشعب الصيني في كنف دولة اشتراكية حديثة وغنية وديمقراطية وحضارية.
شبكة الصين /27 نوفمبر 2008/
|