الصفحة الأولى | اطبع | أرسل لصديق | أضف إلى المفضلة | اتصل بنا | حجم الخط    أ أ أ

الصين والعالم: ثلاثون عاما من الانفتاح


بقلم د. محمد نعمان جلال

(د. محمد نعمان جلال: سفير مصر الأسبق في الصين، وخبير الدراسات الصينية والاستراتيجية الدولية بالبحرين)

 

يتسم العالم المعاصر بثورات فكرية وسلوكية متناقضة يمكن تركيزها، من جانب ذي طبيعة خاصة، بأنها ثلاثة أنواع من الصناعات: صناعة الكراهية، صناعة التوتر، وصناعة التخلف والفقر. في الصين يمكن أن نصفها من زاوية أخرى بأنها صناعة الحب والوفاق، صناعة التصالح والتساند، صناعة التقدم والنمو. ومن زاوية ثالثة، يمكن أن نطلق عليها صناعة الاستهلاك، صناعة التقارب الزماني والمكاني وصناعة التكنولوجيا المعرفية.

ونتساءل إلى أي من عوالم الواقع المعاصر تنتمي الصين في بداية القرن الحادي والعشرين عام 2008، بعد مرور ثلاثين عاما على ثورة الإصلاح والانفتاح التي قادها الزعيم الصيني الراحل دنغ شياو بينغ؟

المتتبع للتطور الفكري والصناعي والتكنولوجي، وكذلك التطور الاقتصادي والاجتماعي والسياسي، يلمس أن الصين تنتمي إلى عوالم متعارضة أو متقاطعة تتمثل أبعادها في ما يلي:

الأول: نهضة صناعية وتكنولوجية بالغة السرعة، متنوعة الجوانب أدت إلى تحولها من دولة متخلفة إلى دولة صناعية متقدمة تنتج العديد من السلع وتغزو أسواق العالم المتقدم والنامي على حد سواء، وتحول ميزان التبادل التجاري لصالحها مع معظم دول العالم، مع استثناءات محدودة للغاية. ومن ثم ساهمت الصين في إثراء الاقتصاد العالمي وفي زيادة حجم التجارة الدولية وفي زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية المباشرة، خاصة في مجالات الموارد الأولية في الدول النامية وفي مجال العقارات وصناعة الخدمات في الدول المتقدمة.

الثاني: تقدم اجتماعي واقتصادي داخلي أدى إلى تغيير وضع الطبقات في المجتمع من حالة الفقر ودون حد الكفاف، إلى حالة الاكتفاء الذاتي. وانخفاض عدد الفقراء إلى أدنى نسبة مع مستوى العالم، بما في ذلك دول العالم المتقدم مثل الولايات المتحدة. وتحول الفرد الصيني من إنسان يعيش مهمشا اقتصاديا، وإلى حد كبير اجتماعيا، إلى إنسان يستمتع بالتقدم الصناعي فتحسن مستوى السكن ومستوى التعليم ومستوى الإعلام ومستوى وسائل المعيشة من المأكل والملبس ووسائل الانتقال ووسائل التعرف على العالم الخارجي من خلال القنوات الفضائية، وقد أثر ذلك في ثلاث زوايا سلوكية واجتماعية؛ فمن ناحية برزت الهوة بين الطبقات وظهر ما يطلق عليهم المليونيرات الجدد، وظهرت الشركات عابرة القارات، وبرزت الصناعات بالغة التقدم التكنولوجي، ومن ناحية ثانية، زاد العبء الاقتصادي والاجتماعي على الطبقات المتوسطة والفقيرة، حيث ارتفعت الأسعار مع ارتفاع الدخول وتغيرت سلوكيات الأفراد بزيادة وتغير نمط الاستهلاك وثورة التطلعات لدى المواطن الصيني، بعد أن كان قبل ثلاثين عاما يعيش في حالة انغلاق فكري واجتماعي واقتصادي، تحول ليعيش جوانب عديدة من الحياة المعاصرة بإيجابياتها وسلبياتها. ومن ناحية ثالثة، ظهرت طبقة تكنوقراطية جديدة تنافس نظيراتها في الدول المتقدمة.

الثالث: تقدم سياسي متدرج ومتأن نحو الديمقراطية بالمفهوم الغربي، مع الإصرار على الاحتفاظ بالطابع السياسي الذي يعكس تراث وثقافة الصين ذات الحضارة العريقة، وهي تختلف في جانب كبير منها عن الدول الحديثة تاريخيا في نشأتها مثل الولايات المتحدة. نقطة الاختلاف الجوهرية ذات البعد الفلسفي هنا هو أن ثقافة الصين قامت على أساس الوفاق والتفاعل بين التناقضات انطلاقا من فلسفة ين ويانغ التقليدية وتفاعلها مع فكر كونفوشيوس الذي جرى إحياؤه و فلسفة بوذا التي استعادت قدرا كبيرا من تراثها، في حين أن الثقافة الغربية المعاصرة، وبخاصة الثقافة الأمريكية، قامت على أساس صراع المتناقضات وتنافس الأضداد بطريقة تتأثر بالمنطق الإعلامي الأمريكي المستمد من مفهوم الإعلان وصناعة النجم وتحول المنصب الرئاسي إلى صناعة أطلق عليها "صناعة الرئيس الأمريكي" عبر شاشات التليفزيون والحوارات، وعبر عملية من النقد الذي يغطي كافة جوانب سلوكياته الشخصية والاجتماعية، فضلا عن الاقتصادية والسياسية وانتماءاته الفكرية والدينية. هذا النمط في منهج القيادة والديمقراطية الأمريكية يختلف عن منهج بناء القيادة والديمقراطية في الصين خاصة، وفي الحضارات الشرقية عامة، والذي يقوم على الترابط الفكري بين الفرد والمجتمع وعلى بناء الكادر السياسي عبر مرحلة من التنشئة السياسية والاجتماعية. ومن ثم فإن بروز الزعيم أو القائد في دول مثل الصين يستغرق وقتا أطول من بروز القائد في دولة مثل الولايات المتحدة حيث يتبلور ظهوره في مرحلة الانتخابات، في حين يتبلور ظهور القائد في دولة مثل الصين عبر مرحلة طويلة من التدرج القيادي.

ومن هنا فان أبرز معالم التغير في الصين هو انتقالها السريع من جانب والتدريجي من جانب آخر إلى الوضع القيادي على المستوى العالمي. فرغم أن اقتصاد الصين الكلي ينتمي إلى الدول الخمس الرائدة اقتصاديا وتكنولوجيا، ورغم أن الصين دوليا تنتمي إلى الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن إلا أن سلوك الصين يصر على انتمائها إلى دول العالم الثالث أو الدول النامية من حيث رفضها سياسة الهيمنة والسيطرة، ورفضها سياسة التوسع الإمبريالي الجديد واعتمادها على سياسة القوة الناعمة لتحقيق أهدافها ورفض سياسة القوة الخشنة، بل ومعارضة استخدام الدول الأخرى لذلك كما في رفضها غزو العراق ورفضها الضغط والتهديد تجاه إيران ورفضها سياسة القمع الإسرائيلي ضد الفلسطينيين ورفضها الضغط والتدخل الخارجي ضد السودان أو زيمبابوي، إيمانا بأن المجتمع الداخلي وقواه الفاعلة في كل دولة هو المسؤول عن إحداث التغير نحو الديمقراطية ونحو التنمية عندما تنضج الظروف وتصبح مواتية لإحداث التغير، نتيجة عملية التفاعل بين البنية الأساسية والصناعية وبين البنية الاجتماعية والثقافية. وعملية التفاعل هذه هي التي تضمن الحراك المستمر للمجتمع وتحقيق الوئام بين كافة مكوناته وعناصره.

هذا المنطق الصيني يختلف عن المنطق الفكري الغربي، وخاصة الأمريكي المعاصر، الذي يرى أن العامل الخارجي أو بالأحرى الضغط الخارجي يمثل القوة الدافعة للتقدم.

ولعلنا نلمس حرص الصين على عدم الانضمام حتى الآن إلى نادي الدول المتقدمة الصناعية، المعروف باسم مجموعة الثماني، وإصرارها على أنها تنتمي لمجموعة الدول النامية البازغة الخمس. وإذا أخذنا المجموعتين معا، يمكن القول إن العالم يحكم بهما اقتصاديا، وإلى حد ما سياسيا واجتماعيا، مع اختلاف جوهري بين المجموعتين، فالأولى قامت على تراث استعماري وغزو اقتصادي للعالم الثالث، والثانية قامت على أساس تعاون اقتصادي وتبادل تجاري. الأولى قامت على فلسفة التدخل والغزو والقوة الخشنة، والثانية قامت على أساس فلسفة التعاون والقوة الناعمة.

ولعلنا نقدم نموذجا أكثر وضوحا عام 2008 للدلالة على طبيعة التغير الحادث في الصين عبر الثلاثين عاما التي خلت، ومدى اختلافه أو اتفاقه مع ما يحدث في الدول المتقدمة التقليدية. هذا النموذج يتمثل في الدورة الأولمبية 2008. هذا التاريخ تم اختياره بدقة ليعكس رقم ثمانية الثلاثي (اليوم والشهر والسنة) ليعبر عن النماء والتقدم والازدهار وليعكس روح التفاؤل وهذا يختلف عن روح الصراع والضغوط التي تضطلع بها دول مثل الولايات المتحدة في اجتذاب قوى المعارضة من الدول الأخرى أو السعي للتأثير عليها والتدخل في شئونها الداخلية. شعلة الأولمبياد الصينية تعكس السعي لإنارة طريق التقدم وليس لإشعال النيران في الآخرين تحت دعاوى مختلفة.

الأداة واحدة وهي "الشعلة"، ولكن الهدف مختلف وكذلك السلوك. نفس الشيء يمكن أن ينطبق على صناعة السلاح وعلى الفضائيات والأقمار الصناعية. هل الهدف حول حماية الوطن لو وقع عليه الاعتداء ورصد حالات المناخ وتغيراته؟ أم الهدف هو غزو الدول الأخرى والقيام بأعمال التجسس عليها؟ هنا لابد مرة أخرى من العودة إلى التراث الثقافي والفكري والأساس الفلسفي لبناء الدولة ونظامها السياسي.

هذه لمحات من تطورات الصين عبر ثلاثين عاما، نلخصها في عجالة وهي عملية الانتقال الاقتصادي والاجتماعي من التخلف إلى حالة التقدم، وعملية الانتقال الفكري والأيديولوجي من مفهوم صراع الطبقات وديكتاتورية البروليتاريا والتي أساسها الفكري الفلسفة الغربية، إلى مفهوم تعاون الطبقات وتفاعلها في إطار اندماج وتفاعل المتناقضات في فلسفة ين ويانغ، والتي هي أساس الحضارة الصينية العريقة. التدرج والتطور والتفاعل الذي يؤدي إلى التقدم هو أساس ما يحدث اليوم في الصين ومحور تقدمها والقوة الكامنة الموجهة لذلك.

إن الثورة المعاصرة في الصين في بداية القرن الحادي والعشرين تعبر عن ثلاث حالات هي: صناعة المحبة والوئام، صناعة التقارب والتفاعل عبر القوة الناعمة وصناعة حل الأزمات عبر التأني والالتجاء لعنصر الصبر والزمن. من هنا تفاعَل التقارب لإعادة الوحدة للتراب الصيني والوحدة الصينية، كما حدث في هونغ كونغ وفي ماكاو، وكما يحدث اليوم في التفاعل بين الصين الأم وبين منطقة تايوان. الثقافة والتجارة والاقتصاد والسياحة والاستثمار وبناء ركائز التقدم هو ما يشد الشعوب والأفراد نحو بعضها البعض، وليس الغزو أو العدوان والتهديد باستخدام القوة.

 

شبكة الصين /21 أكتوبر 2008/





تعليق
مجموع التعليقات : 0
مجهول الاسم :