الصفحة الأولى | اطبع | أرسل لصديق | أضف إلى المفضلة | اتصل بنا | حجم الخط أ أ أ |
موقع عمان : الـ فُو: الصين ونشأة قصيدة النثر
نشر موقع عمان 11 يناير 2011 بحثا حول أحد أشكال الأدب الصيني "فو" كتبه مورتن ماركوس وترجمه أحمد شافعي إلى اللغة العربية أكد الكاتب أن قصيدة النثر بدأت في الصين في عهد أسرة "هان" (206 ق م ـ 220 م) . عنوان البحث:
الـ فُو: الصين ونشأة قصيدة النثر
ثمة نظرية شائعة بين شعراء النثر والأوساط الأدبية في أوروبا والأمريكتين ترى أن قصيدة النثر بدأت في مطلع القرن التاسع عشر بديوان ألويزيوس برتران Aloysius Bertrand "جاسبار الليل" Gaspard de la Nuit ثم جاء بودلير فواصل تطويرها في "سأم باريس" Le Spleen de Paris وتبعه رامبو بـ "الإشراقات" Les Illuminations، ومن بعده جاء بضعة شعراء، أغلبهم فرنسيون، فدخلوا بالقالب إلى القرن العشرين.
والواقع أن قصيدة النثر بدأت في الصين في عهد أسرة "هان" (206 ق م ـ 220 م) حيث كانت تعرف بالـ "فُو"، أو "النثر المقفَّى" [أو ربما "المسجوع"؟]. وكانت الفو في جوهرها تسلية في البلاط، تكتب للتسرية عن الإمبراطور والنبلاء بمصاحبة المراسم والطقوس واللقاءات ذات الطابع غير الرسمي. وكانت كثيرا ما تنطوي على تلميحات سياسية نقدية، وعادة ما كانت تتألف من وصف لشيء ما، أو لظاهرة طبيعية، يتسم بالحيوية والطول ويأتي في نظم مقفى تسبقه مقدمة نثرية، ويقاطعه النثر في كثير من الأحيان. كانت مهمة النثر أن يقدم الشرح اللازم، بينما يمثل الجزء المنظوم اللغة الحماسية. وكانت العناوين الشائعة للفو من قبيل "الريح" و"البومة" وإن كانت عناوين من قبيل "تسلق البرج" أو "عن الرحيل" أو "عن المدينة الموحشة" تنقل إحساسا أكبر بتنوع المواضيع والمقاربات التي تنطوي عليها الفو. ولدينا في اللغة الإنجليزية منتخبات جيدة من الفو تسبقها مقدمة ممتازة صدرت عام 1971 عن مطبعة جامعة كولمبيا بعنوان "النثر الصيني المقفى لـ برتن واطسن"، والمقتطف التالي مأخوذ من نص ترجمه واطسن إلى الإنجليزية بعنوان "الريح"، وهو يعكس ملامح الفو الأساسية في نماذجها الأولى:
"كان ’هسيانج’ Hsiang ملك ’تشوأُو’ Ch'u يستريح في قصر ’سقيفة الأوركيد’، وبصحبته من رجال البلاط صنج يو Sung Yu وتشنج تشاآ Ching Ch'a حينما هبت فجأة عاصفة من الريح. كان الملك فاتحا أزرار سترته في مواجهة الريح فقال "كم هي جميلة هذه الريح! لعلي أنا والبشر العاديون شركاء فيها، أم لعلنا لسنا كذلك؟
فأجابه صنج يو قائلا ’بل إن هذه الريح لجلالتك وحدك. كيف للعاديين أن يشاركوك إياها؟’
قال الملك ’إنما الريح نَفَسُ السماوات والأرض. تصل إلى كل ركن وزاوية، لا تميز بين العالي والداني، بين الرفيع والخسيس، تمس كل مكان. فما قصدك بقولك إن هذه الريح لي وحدي؟’
أجابه صنج يو قائلا ’لقد سمعت معلمي يقول إن فروع شجرة الليمون المتثنية تنادي الطيور كي تقيم عليها أعشاشها، وإن التجاويف والشقوق تنادي الريح. ولكن الريح تختلف بحسب المكان الذي تقصده’.
قال الملك ’قل لي، من أين تأتي الريح؟’
أجابه صنج يو:
تولد الريح في الأرض،
تنبثق من أطراف الطحالب الطافية،
تدس نفسها في الوديان،
تشتد في مخارج الأودية العميقة،
تلتف من حول جبل تاآي T'ai ،
ترقص تحت الصنوبر والأرز،
في نعومة تطير، ويكون لها صفير ونحيب،
وبضراوة تصرخ غضبها،
تتحطم بصوت كالرعد،
تحوم وتتقلب في اضطراب،
تهز الصخور، وتجلد الشجر،
تطيح بالدغل المتشابك،
وحين تتلاشى كل قوتها،
تتهاوى، وتختفي،
تندفع من أصغر الشقوق، وتهز مزاليج الأبواب
تعبرها صافية نظيفة
تتبعثر وتتقلب،
وهكذا تتواثب هذه الريح البطولية الطازجة الباردة
وتتقافز إلى أعلى وإلى أسفل
تتسلق الجدران العالية
وتدخل إلى أعماق قاعات القصر"
وتستمر القصيدة في امتداح آيات الريح "النبيلة" إلى أن تكشف عن مغزاها السياسي الاجتماعي بجلاء تام في نهاية القصيدة:
"قال الملك ’وصفتَ فأعجزت! ولكن هل لي الآن أن أعرف شيئا عن ريح الناس العاديين. فرد صنج يو:
ريح الناس العاديين
تأتي دوامات من الحواري والأزقة
تعبر القمامة، وتثير الأتربة
تهتاج طول دربها وتضطرب.
تنسل من الفتحات وتطرق الأبواب
تبعثر الرمل، وتعصف بالرماد
تخوض في الوحل وترفع قطعا من الطين
تعبر شبابيك الحظائر
وتتسلل إلى غرف الأكواخ
وحين تهب هذه الريح على رجل
يشعر في آن واحد بالحيرة والاكتئاب.
تضربه الحرارة، وتخنقه الرطوبة
ينكسر قلبه ويثقل همه
ويمرض وتتمكن منه الحمى،
تمر على شفتيه، فتظهر القروح
وتضرب عينيه بالعمى
فيبقى يصيح ويبقى يخرف
لا يعرف أحي هو أم ميت
وهذا ما يعرف بريح الناس العاديين الدنيئة"
بالوصول إلى عهد أسرة صنج Sung (960 ـ 1279م) كانت الفو قد تطورت إلى القالب الذي يعرفه الكتاب الغربيون بقصيدة النثر. باتت تكتب كاملة بالنثر، واتسع نطاق مواضيعها ومقارباتها، وصارت لها محددات شكلية قليلة. ومن أجل تمييزها عن نماذج الفو الأولى صار اسمها "وِن فو wen fu " وكان أعظم ممارسيها هو أيضا واحد من أعظم شعراء الصين وهو "سو شين" المعروف أيضا باسم سو تنج بوأو Su Tung-p'o والذي عاش في الفترة من 1037 إلى 1101. كتب سو كثيرا من الفو، وأشهر ما كتبه اثنتان من الونفو عن "الصدع الأحمر" وهما متضمنتان في أغلب أنطولوجيات الشعر الصيني الكلاسيكي المترجم، وكذلك في منتخبات برتن واطسون من شعر سو تانج بو أو الصادرة عن كوبر كانيون عام 1994. إليكم فيما يلي ترجمة واطسن للاستهلال المرعب الذي تبدأ به أولى مقطوعتي "الصدع الأحمر" الذي يعني بالنسبة لـ سو الدخول إلى عالم الروح، عالم الخالدين، ذلك العالم الذي كان سو يرى أنه يمكن أن يتقاطع مع عالمنا هذا في أية لحظة، والذي يحمل تشابهات لافتة مع الآفاق الحلمية في قصيدة النثر الغربية الحديثة:
"لوهلة عابرة، بزغ القمر من التلال الشرقية، وراح يجوب السماء فيما بين أنجم ’رامي السهام’ وأنجم ’الماعز’. حط صقيع أبيض فوق النهر، فبلغ سطحه الساطع عنان السماء. تاركين القارب يمضي أنَّى يشاء، انجرفنا إلى حقول ماء لا عدد لها. شعرت ببهجة بلا حدود، كأنما كنت أبحر في الفراغ أو أمتطي الريح دون أن أدري في أي موضع أقف. كنت ملآن بالنور، كأنما تركت من ورائي العالم فبت واقفا وحدي، أو كأنما نبت لي جناحان فطرت لألحق بالخالدين".
القصيدة في أغلب أجزائها حوار بين المتكلم وصديق له كان لنايه "صوت نحيب، تنساب منه أنغام طويلة في الليل كأنها خيوط لا تنتهي من الحرير، صوت يجعل التنانين ترقص في الكهوف الخبيئة، وتبكي لها الأرملة الوحيدة في زورقها". يئن عازف الناي من "فرط قصر الحياة" ويحسد "النهر الطويل الذي لا يتوقف". فيجيبه المتكلم بمقطع من أشهر الشعر الصيني كله قائلا:
"أتعرف ما حال المياه والقمر؟ أما المياه فتنساب وتنساب هكذا، ولكنها بطريقة ما لا تخرج عن مسارها. والقمر يكبر ويصغر ويأفل ولكنه في نهاية المطاف هو القمر. فلو أننا نظرنا إلى الأشياء بعين التغير، فلن نرى للثبات فرصة في الخلق كله. ولكننا إن نظرنا إلى الثابت في الأشياء، فنحن وكل الكائنات سواء، لنا نهاية. فعلام الحسد؟"
ومرة أخرى تتضح العلاقة بين عالمنا وعالم الروح، وعالم اللاوعي (وهو من أهم شواغل شعر النثر الغربي الحديث) في المقطع الأخير من مقطوعة سو الثانية عن "الصدع الأحمر":
"عدت إلى أصحابي وركبت القارب، وحللناه لينساب مع التيار، راضين بأن يقف حيث يشاء. كانت الليلة شارفت على الانتهاء، وكل ما هو من حولنا موحش وساكن، حينما ظهر بغتة كركي وحيد، عابرا النهر من جهة الشرق. كان جناحاه كأنهما عجلتا عربة، وكان يرتدي مسوحا سوداء من فوقها معطف أبيض من الحرير. صارخا صرخة طويلة، عبر من فوق قاربنا ماضيا إلى الغرب.
بعدها بقليل، تركت أصحابي وأويت إلى فراشي. حلمت أني أرى أحد الخالدين الطاوين في مسوح من الريش قادما على الطريق، متواثبا. انحنى حينما بلغني وقال ’عساك تكون استمتعت بخروجك إلى الصدع الأحمر’. سألته عن اسمه، فطأطأ رأسه ولم يجب.
’آه، انتظر، أنا الآن أعرف طبعا. ليلة أمس، كنت أنت الذي طار فوق قاربنا وصاح، كان ذلك أنت، أليس كذلك؟’
أشاح عني برأسه وضحك، وصحوت لأبدأ من جديد. فتحت الباب، ونظرت، فلم أستطع أن أرى له أي أثر".
كان أستاذ سو، واسمه وويانج زيو Ou-yang Xiu شاعرا وكاتبا شهير. ويمكن العثور على ترجمة آيه سي جراهام A.C. Graham لـ [نصه] الشهير "صوت الخريف" في الجزء الأول من أنطولجيا الأدب الصيني لـ سيرل بيرتش Cyril Birch (الصادرة عن مطبعة جروف سنة 1965). وأنا أقدمها هنا بصورة شبه كاملة لكونها النص الذي "حرَّر" الفو من أغلب قيودها الشكلانية، موظفا "الجمل" النثرية بشتى أطوالها، بدلا من الجمع بين النثر والشعر. وإن بقي النص يستخدم القافية إنهاءً للفقرات وتعزيزا للإلقاء، ويتبع بصفة عامة أداء الفيت the fit الأصلية من الوصف الطويل لمشتمل على كثير من التفاصيل. ولاحظوا، في هذا السياق، أن أويانج يعدد في بداية القصيدة المعاني المحتملة للصوت الذي يسمعه، متبعا في ذلك آليات القوائم المتبعة في الفو القديمة، لا سيما في "الريح" التي سبق ونقلنا أجزاء منها.
"ذات ليلة وأنا اقرأ سمعت صوتا من جهة الجنوب الغربي. أخذت أنصت متنبها وأنا أقول:
’غريبة! لقد كان أول الأمر نقرَ قطراتٍ، حفيفا في الهواء، وإذا به بغتة حوافر تجري، أو موج على ساحل، وكأن موجات ضخاما تنهضن فزعاتٍ في الليل، وسط انهمار الريح والأمطار بغتة. حينما تصطدم بشيء تدوي وتقعقع، فهي ذهب وحديد يدوران معا، ثم إذا بها كأنها جنود يندفعون على عدو، فهم يجرون وبين أسنانهم ما يشبه الشكائم، فلا تسمع أمرا يصدر، بل صوت ركضهم وركض خيولهم’.
قلت للصبي ’ اذهب فانظر ما هذا الصوت’.
رجع الصبي من الخارج وقال لي:
’القمر والنجوم في السماء، جميعها ساطعة، بيضاء ونقية، والنهر الساطع في السماء، وما من صوت إنسان هناك، بل الصوت في أعالي الشجر’.
قلت ’يا للأسف، ويا للحزن! إن ذلك لصوت الخريف، فلم جاء؟ لو شئت أن تتعرف علامات الخريف المميزة، [فاعلم أن] ألوانه باهتة ومحزنة، وفيه الضباب يتبدد والغيوم تنزاح، وأن وجهه صاف وساطع، وسماءه عالية وشمسه صافية، هواءه لاذع و حاد، يطعن اللحم منا والعظام، مزاجه كئيب ومقبض، وجباله وأنهاره موحشة وحيدة. لذلك تجد صوته المائز عويلا وصرصرا، حافلا بالصرخات والصيحات. إننا نجد البهجة في العشب الخصب إذ يتكاثر، وفي خضرة الشجر إذ تزداد، ثم يأتي الخريف فيضرب العشب مغيرا لونه، ويمس الشجر فيساقط ورقه. وهو لا يجد القوة على التبديد والبعثرة إلا من الغضب الرهيب الكامن في رياح السماوات والأرض ...
’وا أسفاه! إن النبات لا يشعر بشيء والشجر، ينعصف وحسب، ويتبعثر لا أكثر، حينما يحين الأوان، ولكن للبشر وعي، هو أشد أنواع الذكاء نبلا. مائة هم تثقل قلب الإنسان، ومهام بلا عدد تهلك جسمه، وأهون حركة بداخل المرء تجعل الروح لا محالة ترتعد، وأثقل من كل ذلك يحيق بالمرء إذ يفكر فيما يفوق مساعيه، وينشغل بما لا تملك حكمته أن تغيره! طبيعي أن تستحيل حمرة الخريف الزلقة صفرة ذابلة، وأن يمتلئ سواده الأبنوسي سريعا بالنجوم! وأنى للإنسان، وما هو من حديد أو حجر، أن يطمح إلى أن يبز العشب والشجر بهاء وألقا؟ فما بالنا، ونحن أدرى بذلك الذي يمارس علينا كل هذا العنف، نشكو من صوت الخريف؟’
لم يحر الصبي جوابا، مال رأسه، وراح في النوم. فما سمعت غير أزيز الحشرات في الجدران الأربعة، كأنها جوقة من وراء التنهدات.
بعد أسرة صنج، قل استخدام الفيت fit بين الشعراء، برغم أننا يمكن أن نقدر أهميتها من خلال كتاب صدر بعنوان "الفو عبر القرون" سنة 1706، ضاما أكثر من 3500 فو كتبت حتى سنة 1644 (نهاية أسرة مِنج Ming). ويوعز واطسن سبب تراجع شعبية الفو إلى ظهور الأشكال القصصية، لا سيما الرواية، في الصين في ذلك الوقت، ولعلي مضيف إلى ذلك، التزايد الرهيب في عدد من كانوا يبحثون عن العمل في أي مجال، ومن جملة المجالات كتابة الشعبي من القصص والمسرحيات، وكلتيهما كانتا أدنى مما ينبغي للأديب اجتماعيا وفنيا في ذلك الوقت.
لا يعني هذا أن الفو اختفت من الأدب الصيني بالمرة. ففي وقت حديث حداثة عام 1927، أصدر لو زَن Lu Hsun ، وهو أشهر كتّاب الصين في القرن العشرين، كتاب "العشب البري"، المؤلف من الـ وِن فو wen fu ويتبين لنا منه استمرار حيوية هذا الشكل الأدبي. ويمكن العثور على مختارات من هذا الكتاب في "أنطولوجيا كولمبيا للأدب الصيني الحديث" التي قام بتحريرها هوارد جولدبلات Howard Goldblatt و جوزف إس إم لاو Joseph S. M. Lau والتي صدرت عن مطبعة جامعة كولمبيا سنة 1995. ومن تلك المجموعة، تجدون فيما يلي آخر أربع فقرات من "ليلة الخريف" لـ لو زن، ويتبين لنا منها الألعاب الذهنية التي يستخدمها في كتابه كله، ويمكن أيضا أن نستخلص منها أوجه الشبه والاختلاف بين مقطوعات لو زن ومقطوعات أويانج Ou-yang التي قد تكون كتبت قبل تسعمائة عام من الزمن ومن التواصل أيضا في الفن والفكر الصينيين عبر العصور. نشير هنا إلى أن الأجزاء المتقدمة من القصيدة تضمنت تأملات للزهرة الوردية والنخلة، وإلى أن الترجمة الإنجليزية تمت بقلم نج ماوسنج Ng Mau-sang.
"بغتة أسمع في جنح الليل ضحكة خافتة، فيها من الرهافة ما يشي برغبة عن إيقاظ النيام، غير أن أصداءها تتردد عبر الهواء المحيط. ليس في ذلك الليل البهيم من أحد بالجوار. أدرك على الفور أن هذه الضحكة صادرة من فمي أنا. يدفعني الصوت، فأرجع إلى غرفتي وأرفع فتيل المصباح.
يصدر صوت عن زجاج الشباك الخلفي، لا تزال هوام كثيرة تصطدم به في عمائها. ولا يمر وقت يذكر، حتى ينسل بعضها داخلا، ربما عبر ثقب في الورق الذي يغطي الشباك. ولا تكاد تدخل حتى تبدأ في نقر زجاج المصباح، محدثة المزيد من الأصوات. تغوص إحداها من أعلى المصباح، وتسقط باتجاه اللهب. أقول لنفسي، إنه لهب حقيقي. تبقى اثنتان أو ثلاث تتخبط في غطاء المصباح الورقي. الغطاء جديد، وضع بالأمس فقط، لا يزال أبيض كالثلج، مثنَّى كأنه الموج، ومثبت في إحدى زواياه غصن ياسمينة قرمزية.
حينما تتفتح الياسمينة القرمزية، سترى النخلة من جديد حلمها بالزهرة الوردية، ستنمو خصبة وتنحني كالقوس. أسمع من جديد الضحك الليلي، وينقطع حبل أفكاري. أرنو إلى الهوام التي لم تزل تستريح إلى الورق الأبيض الثلجي، رؤوسها ضخام، وذيولها رقيقة، كأنها بذور عباد الشمس، صغيرة كأنها أنصاف حبات قمح. كم هي جميلة ومسكينة في وهجها اللازوردي.
أتثاءب، وأشعل سيجارة، أنفث الدخان. أحدق في المصباح وأحيي بصمتي هؤلاء الأبطال الرائعين في خضرتهم الزمردية".
في المجموعة نفسها ثمة قصائد نثرية لـ زو زيكنج Chu Tzu-ch'ing و زو زورن Chou Tso-jen، وتثبت هذه القصائد النثرية أن الفو لا يزال مزدهرا في الأدب الصيني مثلما كان في ماضيه. وهنا أيضا نجد عملية التفكير هي محور تركيز الرجلين. إليكم قصيدة كاملة للزو ترجمها إلى الإنجليزية هوارد جولدبلات:
عجلة
قد تروح طيور السنونو، ولكنها عائدة ذات يوم، قد يذبل الصفصاف، ولكن ليخضرّ من جديد، قد تذوي براعم الخوخ وتتساقط، لكنها سوف تتفتح من جديد. فأنبئني أنت، يا من تفوقني حكمة: لماذا الأيام تمضي ثم لا تعود؟ أيسرقها سارق؟ فمن يكون؟ وأين تختفي؟ أم تراها تهرب من تلقاء نفسها؟ وإذن، أين هي الآن؟
لا أعرف كم يوما أُعطيتُ، لكني مخزوني على أي حال في تناقص مطرد. أحسب في صمت وأعد، فأجد 8000 يوم انسربن من بين أصابعي، كلٍّ كقطرة ماء على رأس دبوس، كلهن سقطن في المحيط. تتلاشى أيامي في نهر الزمن، بلا جلبة، وبلا أثر، ودونما إرادة تنهمر دموعي، وعرقي.
ما راح راح، وما هو آت لا راد لمجيئه. وبين ما راح وما هو قادم لا محالة، ما الذي يجعل الزمن يجري بهذه السرعة؟ حين أصحو في الصباح يكون ثمة شعاعا شمس أو ثلاثة في غرفتي الصغيرة. الشمس، هل لها قدمان؟ إنها تتقدم في صمت، وأنا دون أن أدري، أحذو خطاها. وفيما أستحم، ينسرب الزمن مع الماء في حوضي، ومع الأرز في طبقي. حين أقف ثابتا وساكنا تتبع عيناي بدأب تقدمها أمامي. أشعر بها تحث خطاها، وحين أمد يدي لتغطيها وتمسك بها، تذوب من بين يدي، وتمضي قدما. في الليل، وأنا مستلق على سريري، تمد الخطى فوق جسمي وتطير أمام قدمي. وحينما أفتح عيني لأحيي الشمس من جديد، يكون يوم انصرم. أدفن وجهي بين راحتي وأطلق تنهيدة. ولكن ظِلَّ النهار الجديد يندفع أمامي، حتى وأنا أتنهد.
في هذه الأيام العابرة، أي شيء يمكن لي أنا، وما أنا غير واحد من كثيرين، أن أنجزه؟ لا شيء، سوى أن أهرول في حيرة، سوى أن أسرع وأسرع. وفي هذه الأكثر من 8000 يوم من العجلة ما الذي يمكن أن أراه غير أشياء غائمة؟ الأيام التي مضت أشبه بدخان جعلته الريح بددا، أشبه بضباب رقيق تلاشى تحت سياط شمس الصباح. أي أثر أتركه من ورائي؟ أيكون الأثر الذي أخلّفه أنا مثل خيط العنكبوت؟ عاريا جئت إلى هذا العالم، وفي غمضة عين، عاريا أتركه. ولكن ما لا أقبله هو لماذا، لماذا من الأصل أقوم بهذه الرحلة العبثية؟
أرجوك يا من تفوقني حكمة، قل لي لماذا أيامنا التي تروح، لا يمكن أن تعود؟"
توصف "عجلة" في أنطولوجيا كولمبيا للأدب الصيني الحديث بأنها مقالة، شأنها شأن مقطوعات لو زن Lu Hsun في "العشب البري". ولكن سي تي زيا C.T. Hsia في كتاب "تاريخ القص الصيني" يشير إلى كتاب "العشب البري" غير مرة بوصفه كتاب قصائد نثرية. والباحثون الصينيون الذين يكتبون بالإنجليزية بصفة عامة يعمدون كثيرا إلى عدم إثبات الفارق بين أنواع معينة من المقالة من جهة وبين قصائد النثر من جهة أخرى. حتى أن مقطوعتي سو في "الصدع الأحمر" اللتين يعتبرهما واطسن قصيدتي نثر تسميان لدى بيرتش "مقالتين" و"قصيدتي نثر" في جملة واحدة، وتسميان "كتابات شعرية" لدى ستيفن أون Stephen Owen في "أنطولوجيا الأدب الصيني منذ بداياته وحتى 1911" (صدرت عن نورتن سنة 1996).
هذه محض مقدمة سريعة، ولكن لا بد أن يكون واضحا أن تراث قصيدة النثر الصيني يسبق زمنيا مثيله الغربي بنحو ألفيتين من الزمن. وإنني أحسب أن نشأتها الأولى تنبع من إيجاز طبيعي في الغة الصينية، ومن تطور الحكايات شديدة الاختصار التي استقرت منذ وقت مبكر للغاية في الأدب الصيني والتي تمثل نصوصا شديدة التنوع نشير بصورة عشوائية إلى اثنين منها هما تواريح زاو جوان Tso chuan وحكايات زوانج زي Chuang Tzu الفلسفية، وكلتيهما كتبتا أثناء عهد أسرة زاو (Chou 1122 ـ 221 ق م)، وكلتيهما متاحتان في الإنجليزية لدى مطبعة جامعة كولمبيا، بترجمة بيرتن واطسن الذي لا بد أن يعد أهم باحث ومترجم إنجليزي للأدب الصيني في الخمسين عاما الأخيرة.
المفارقة في كل ذلك أن المحصلة زهيدة للغاية سواء تعرف شعراء النثر الغربيين على هذا الجذر الصيني لقصيدة النثر أم لم يتعرفوا عليه، حيث أن قصيدة النثر الغربية في كل مراحلها كانت تتكون بتأثير من حساسية برتران وحساسية بودلير، وحيث أن أغلب الكتاب الغربيين تبنوا هذين الموقفين والمقاربتين بوصفهما عناصر قصيدة النثر الجوهرية. وإنني أتكلم هنا عن رؤى الحركة الرومانتيكية، التي كتب كلا الرجلين في ظلها. إحساسهما بما وراء الطبيعة، بالواقع المؤلّف من الشياطاني والملائكي، كل ذلك أتى إلى القرن العشرين بوصفه خيالا سرياليا، وتصويرا لآفاق حلمية عالية الرمزية، أسطورية، و/أو ذات طبائع سيكولوجية مرضية، ناهيكم عن جانب واضح في قصيدة النثر الغربية هو الذي يوحد بينها وبين سلفها الصيني ـ وأعني اتباع كليهما للألعاب الذهنية. فقصيدة النثر الغربية ليس فيها إلا القليل للغاية من أثر القص الغربي الواقعي.
فأي شيء إذن تتناوله هذه المقالة؟ هي ـ فيما أرجو ـ محض اقتراح لتكييف رؤيتنا ـ للنظر من زاوية أوسع إلى المكان الذي ننحدر منه، ولاستشراف طريق جديد نسلكه، مع إطلال ألفية جديدة في زماننا.
*سيلاحظ القارئ ما قد يعتبره خللا في تعريب الأسماء الصينية مقارنة مع طريقة كتابتها بالإنجليزية المثبتة بجوارها. وسبب ذلك أن كاتب المقال أورد بجوار كل اسم صيني طريقة نطقه التي لا تتسق والحروف التي يرسم بها عادة، فاهتديت بنطقه عند تعريبها، مع إثبات الأسماء كما تكتب بالإنجليزية لمن أراد أن يبحث عن شاعر أو يستزيد.
*نشر المقال سنة 1999، في العدد الثامن من مجلة "قصيدة النثر: جريدة دولية" وهي إصدارة أمريكية سنوية توقفت عن الصدور نهائيا سنة 2000.
شبكة الصين / 21 يناير 2011 /
تعليق |
مجموع التعليقات : 0 |