الصين تجربة رائدة ومثل يحتذى
بقلم حسين كامل بهاء الدين، وزير التعليم المصري الأسبق
مقدمة
حينما كان عشرات الألوف ومن خلفهم مئات الملايين على شاشات التليفزيون يشاهدون مراسم انتهاء أعظم دورة أولمبية في بكين، فإنهم في واقع الأمر كانوا يشاهدون ميلاد قوة عظمى تتهيأ لكسر احتكار قوة عظمى أخرى تربعت على القمة قرنا من الزمان و زهاء عقدين كاملين كقوة وحيدة بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق. لم تكتف الصين باحتفال أسطوري أبهر العالم بضروب من الفن والثقافة الصينية القديمة وعروض من التكنولوجيا الحديثة والسحر المعاصر. وبرغم تعرضها لكارثة طبيعية خطيرة استلزمت قيام الدولة بجهود هائلة في زمن حرج قبل شهور قليلة من بدء الدورة، استطاعت الصين أن تجتاز الأزمة الخطيرة.
وعدت الصين بالقضاء على تلوث البيئة وأوفت، وتعهدت بتنظيم دقيق وأبهرت، وتوعدت بسبق رياضي واكتسحت وأقصت الولايات المتحدة من القمة بفارق كبير.
كانت الدورة إشارة واضحة أن المارد الصيني لم يستيقظ فقط وإنما أصبح يعدو نحو القمة بنشاط.
من الاحتلال والإدمان إلى الاستقلال والتقدم
لم يكن نابليون مخطئا حينما قال دعوا العملاق الأصفر نائما فإنه سيبهر العالم. فمنذ مائة وخمسين عاما كان عدد من الدول الكبرى يتناوب الاستيلاء على أجزاء من الصين؛ ذلك العملاق الذي انتابته غفوة من غفوات الزمان ومضاعفات حروب الأفيون التي بدأت عام 1839 ولكن الشعب الصيني نفض آثار النعاس بكفاح مرير انتهى بإعلان تأسيس جمهورية الصين الشعبية عام 1949، واستعادة هونغ كونغ عام 1997 ومكاو عام 1999. وفي سنة 2008 وقبل أيام من ذكرى تأسيس جمهورية الصين الشعبية في أكتوبر قدم عرضا مبهرا لدولة حديثة قادرة ومتطورة استطاعت، رغم كل العقبات، أن تحقق إنجازات في مجالات متعددة بعضها يقع في نطاق المعجزات.
المعجزة الاقتصادية
منذ بدأ دنغ شياو بينغ الإصلاح الاقتصادي في نهاية السبعينيات فقد حققت الصين نموا اقتصاديا لا يقل عن 3ر9% لمدة تناهز الآن ثلاثة عقود واستطاعت مضاعفة الدخل القومي أربع مرات في 15 عاما. وتحقق الصين تقدما مذهلا في الصناعات الحديثة، وارتفع الدخل القومي إلى ما يناهز 11 تريليون دولار أمريكي خاصة في الصناعات ذات قيمة المضاعفة العالية مثل البرمجيات التي أصبحت الهند مثلا تعتبره تهديدا في مجال كان لها فيه ميزة تنافسية كبيرة، وكذلك في صناعة المكونات الأساسية للأدوية. واقتحمت مجالات جديدة وعديدة كما استطاعت أن تنوع مجالات نشاطها الاقتصادي. وفي نفس الوقت كانت قادرة على تحقيق رقم قياسي في المدخرات إذ بلغت نسبة المدخرات الوطنية زهاء 43% من الدخل القومي الإجمالي.
ويرجع التقدم المذهل للاقتصاد الصيني إلى عدة عوامل:
أولا، المزايا الأولية للصين من تعداد سكاني يجاوز المليار نسمة لم تعتبرهم الصين مشكلة سكانية وإنما اعتبرته ميزة، وتعاملت فعلا مع البشر كثروة بشرية وميزة تنافسية طبيعية، خاصة أن الشعب الصيني يتميز بالجلد والصبر والتواضع والولاء والانتماء للوطن.
ثانيا، اتبعت الصين طريق اقتصاد السوق بنكهة صينية وأجرت إصلاحات هيكلية واضحة وسياسات مدروسة لم تغفل البعد الاجتماعي.
ثالثا، استطاعت الصين أن تخلق سوقا بالغ الاتساع بتعدد مصادر ونوعية المنتجات ورخص الأسعار واستغلال الفرص الإقليمية ثم العالمية، ولعل من أبرز الأمثلة الفائض التجاري لصالح الصين مع الولايات المتحدة والذي يناهز الآن 400 مليار دولار أمريكي.
رابعا، استطاع الصينيون أن يتجاوزوا عقدة التعارض بين الأيديولوجية والإصلاح الاقتصادي، ذلك التعارض الذي أدى إلى فقدان الصين فرصة قيادة الثورة الصناعية قبل 8 قرون من قيامها في أوروبا، عندما كانت الصين حينذاك مهيأة بكل المقاييس لقيادة هذه الثورة إذ كانت قد اكتشفت الأفران الكبيرة وتكنولوجيا إنتاج الصلب والبارود والمدفع و البوصلة والورق وآلة الطباعة والبورسلين والكباري المعلقة وآلات الحفر المتطورة والأعداد السالبة وعشرات من الاكتشافات الأخرى المذهلة، ولكن اصطدمت التكنولوجيا ومتطلبات التطور مع الأيديولوجية وضاعت الفرصة، ولكن الصين الحديثة لم تقع في هذا التعارض هذه المرة، وحينما قاد دنغ شياو بينغ الإصلاح الاقتصادي رفع شعارات جديدة: (لا يهم إذا كانت القطط سوداء أو بيضاء، المهم أن تصطاد الفئران. الاشتراكية ليست مرافا للفقر.)
التقدم العلمي
لم يقتصر التقدم علي الاقتصاد، ولكن الصين تقوم بنهضة علمية شاملة في مختلف المجالات، بدأت باهتمام بالغ بالتعليم والبحث العلمي، ثم إرسال أعداد هائلة من الطلاب إلى الدول المتقدمة في كافة المجالات العلمية؛ في العلوم الطبيعية والبيولوجية والتكنولوجيا الحيوية والعلوم الطبية والهندسية وأبحاث الذرة والفضاء. ومنذ عقود بدأ المبعوثون في العودة ومعهم رصيد هائل من العلم والخبرة. وفي إطار سياسة واضحة في تشجيع البحث العلمي وتمويل سخي ورعاية وتوفير الإمكانات للعلماء، بدأت الصين إحراز تقدم بل وريادة في تطوير التكنولوجيا والأبحاث الطبية مستغلة التراث الحضاري والطب الشعبي، جنبا إلى جنب العلم الحديث وأبحاث الخلايا الجزعية والإلكترونات الدقيقة والبرمجيات. وأصبحت الصين بإمكانات أبنائها دولة نووية متقدمة، ثم بدأت باقتحام الفضاء وأرسلت سفينتي فضاء مأهولتين بالبشر إلى الفضاء، ويجمع عدد من المراقبين الغربيين على أنه بحلول عام 2050 سيكون الفضاء محطة صينية.
الاستقرار الاجتماعى والسياسي
وبرغم وجود اكثر من 56 قومية و7 ديانات فإن الصين تتمتع باستقرار وتماسك اجتماعي ملحوظ، ولعل إصرار الشعب الصيني العظيم واحتشاده وراء الدولة والروح الوطنية الجارفة التي أظهرها الشعب قبل وخلال دورة بكين الأولمبية دليلا لا يقبل التأويل، ويؤكد ذلك تصريحات القيادة الصينية علي لسان الرئيس هو جين تاو في مايو الماضي بأولوية الحفاظ على التقدم الاقتصادي والتماسك الاجتماعي في نفس الوقت.
الصين من قوة إقليمية إلى قوة عالمية
لقد بدأت الصين تأخذ في مكانها كقوة عالمية لها وزنها في طريقها بسرعة لأن تكون أكبر قوة اقتصادية في العالم. وبرغم أن الصينيين، بحكم قيمهم الحضارية وتواضعهم الفطري، لا يميلون إلى إظهار قوتهم الحقيقية ويقللون أحيانا من حجم إنجازاتهم، وبرغم كل الظروف المحلية والمحاولات الأجنبية، استطاعت بقدرة ملحوظة على المناورة وكسب الأصدقاء والمعونات التي لم تبخل بها على كثير من الدول النامية؛ إذ تحولت بفضل التقدم الاقتصادي المذهل من دولة متلقية للمعونات إلى دولة مانحة بسخاء ودون شرط أو محاولة التدخل في الشؤون الداخلية. وأصبحت الصين عاملا مؤثرا في السياسة الدولية ونصيرا قويا لحقوق الدول المتطلعة للاستقلال والحرية. وبرأي الكثيرين من الخصوم قبل الأصدقاء، الصين فعلا في طريقها إلى أن تكون قوة عظمى تشكل أملا للكثيرين في عودة التوازن الدولي وانتهاء سيطرة جبروت القطب الأوحد.
قدرة الصين ومضاعفات التقدم والانتقال إلى اقتصاد السوق
تواجه الصين تحديات ومشاكل يتعين عليها التغلب عليها، وتبين المؤشرات أن الصين قادرة وواعية لها، وأنها وضعت خططا مناسبة لمواجهتها، واتخذت إجراءات وقائية وتصحيحية صارمة بدأت تؤتى آثارها. ويمكن حصر هذه الأخطار في:الفساد، التماسك الاجتماعي، التحديات الخارجية، تلوث البيئة والوقود والطاقة.
خاتمة
كانت دورة أولمبياد بكين قصة نجاح وإشارة لا يخطئها المراقبون، ولم يكن حفل ختام الدورة مجرد حفل ختامي لدورة أولمبية متفردة، ولكنه قبل ذلك وبعده كان إعلانا دوليا ببدء مرحلة جديدة، وحفل تسليم لقيادة عالمية تتهيأ لتحمل مسئولياتها في عصر جديد.
شبكة الصين /22 أكتوبر 2008/
|