بكين

بكين هي عاصمة جمهورية الصين الشعبية التي شهدت تقلبات الزمان والبشر على الأرض الصينية. ولعل أشهر ما يميز بكين بين مدن العالم القديمة هو قصورها الفخمة وأبنيتها الضخمة وحدائقها الغناء الساحرة التي تثير دهشة زائريها الأهم من هذا وذلك ما يسمى بالصينية سي خه يوان أي الدار الرباعية بطرازها المعماري الفريد.

والحديث عن النمط المعماري لبكين يعود بنا إلى ولادتها وارتباط ظهورها كعاصمة بأسرة يوان في الصين ومؤسسها قبلاي خان، تلك الأسرة التي استعانت بكثير من المتخصصين والعلماء المسلمين والعرب.

بداية ظهور بكين

تقع مدينة جينغتشنغ (بكين الحالية) أقصى شمال السهول الشاسعة بشمال الصين، تحيطها الجبال من جوانبها الثلاثة وكانت منذ القدم نقطة اتصال بين سهول جنوبي الصين والجبال بشمالها، وقد ورد بالسجلات التاريخية ان تلك المدينة ظهرت قبل 3000 سنة كمركز للسلطة المحلية، ثم ضمتها قوات يان إليها، وبهذا فتحت أول صفحة في تاريخ بكين الطويل.

وفي أواسط القرن الثاني عشر أصبحت مدينة جينغتشنغ التي كانت تعد حينذاك بلدة هامة بسهول شمالي الصين مركزا سياسيا وعاصمة لمملكة أسرة جين التي كانت سلطتها محصورة في شمال نهر هوانخه الأصفر وفي أواسط القرن الثالث عشر تشكلت قوات مملكة أسرة يوان، التي وحدت أراضي الصين، وأقامت عاصمتها في ضاحية بشمال شرقي العاصمة القديمة سميت "دادو" التي تم تخطيطها حسبما تقضي به مراسيم الإمبراطور الصيني في بناء قصوره، وفي كتاب صدر خلال القرنين الرابع عشر والخامس عشر تسجيل شامل لجميع الأعمال اليدوية والمعمارية الخاصة ببناء تلك القصور ورد فيه انه .. لا بد المدينة الإمبراطورية ان تكون مربعة الشكل وعلى كل من جوانبها الأربعة ثلاث بوابات، وتمتد داخلها تسعة شوارع كبيرة، بينما يقع القصر الإمبراطوري جنوبيها والأسواق شماليها، وشرقي القصر يقع معبد تايمياو لعبادة الأسلاف الإمبراطورية وغربيه منصة شهجي لعبادة اله الأرض والحبوب، وجميع هذه الأبنية موزعة على جانبي الخط المحوري للمدينة الذي ينتهي بالقصر الإمبراطوري التزاما بمفهوم تقليدي يفرض ضرورة أن يكون عرش الإمبراطور متجها إلى الجنوب بما يعني سيطرة الإمبراطور الدائمة على أطراف الإمبراطورية.

ويقول مؤرخ صيني من أبناء تايوان ان مهندسا عربيا اسمه اختيار الدين هو الذي خطط مدينة بكين على هذا النحو وانه استلهم فخامة وعظمة عاصمة الرشيد في بغداد مع تكييفها للطابع الصيني ويتحدث المؤرخون عن دور خاص لرجل مسلم هم السيد الأجل شمس الدين الذي تولى القضاء في مدينة دادو "بكين حاليا" قيل انه تقلب في مناصب الثقة مع الإمبراطور المغولي قبلاي خان. ومر حين من الدهر كانت فيه بكين عاصمة للثقافة العربية في بلاد الصين بفضل العدد الكبير من المسلمين الذين تولوا أعمال الإدارة والمال والعلوم في بلاط أسرة يوان.

وفي عام 1368 بدأ حكم أسرة مينغ وأقامت عاصمتها في نانجينغ جنوبي الصين ثم احتلت قواتها مدينة دادو وتم تحويل اسمها الى "مدينة بيبنغ" وفي عام 1420 تغير اسمها إلى بيجينغ "بكين" وخلال هذه الفترة تم بناء المدينة المحرمة والمدينة الإمبراطورية بينما انتقل معبد تايمياو السابق ومنصة شهجي إلى جانبي الشارع المحوري أمام المدينة المحرمة، وتم بناء جبل جينغشان صناعيا شماليها بمخلفات تطهير نهر نانهاي والنهر المحيط بالمدينة لحمايتها، بحيث يتوسطه الخط المحوري ومن ثم اصبحت قمته نقطة هندسية للمدينة فيما بعد، وإلى جانب ذلك بني المعبد السماوي ومعبد شانتسوان (معبد شياننونغ الحالي) شرقي وغربي ضاحية المدينة الجنوبية، ثم ضما داخل المدينة في أواسط أسرة مينغ خلال عملية توسيعها بينما امتد الخط المحوري إلى الجنوب حتى بلغ طوله الإجمالي 8 كيلومترات وبهذا اكتمل تخطيط وبناء تلك المدينة حتى تحرير الصين عام 1949.

تجدر الإشارة إلى ان المدينة المحرمة بوسط بكين تعتبر من أهم المنجزات المعمارية للعاصمة الإمبراطورية في ذلك الحين، وتضم داخلها ستة قصور شامخة ضخمة تصطف على الخط المحوري من الجنوب إلى الشمال، عاكسة عظمة الأباطرة الصينيين.

تعمير المدينة القديمة

بعد تحرير الصين الجديدة كانت عملية تعمير وإعادة بناء بكين كعاصمة حديثة للصين الجديدة، بشرط احتفاظها بسماتها وخصائصها التاريخية الفريدة، مهمة شافة وملحة أمام الحكومة إلا أنها عبر السنوات الخمسين الماضية نجحت في إدخال تغيرات هائلة عليها، كان أهمها توسيع ميدان تيان آن من الذي يواجه المدينة المحرمة، وكان مخصصا في الأصل لإقامة الاحتفالات المختلفة الخاصة بالإمبراطور الصيني، محاطا بأسوار حمراء عالية، ومحرما على العامة ارتياده حتى قيام ثورة 1911 التي أباحت المرور عبره.

في الأول من أكتوبر عام 1949 أعلن من هذا المكان تأسيس الصين الجديدة في احتفال ضخم، إلا أن أسواره العالية حالت دون استمتاع الجماهير الغفيرة به، ولذلك هدمت الأسوار عام 1949 وأحيطت جوانبه بعدة منشآت هامة ضخمة، فأقيمت جنوبه قاعة الشعب الكبرى الممثلة للسلطة السياسية الشعبية العليا، وشرقه متحف الثورة الصينية ومتحف تاريخ الصين اللذان يبرزان قدرة الشعب الجبارة في صنع التاريخ، ووسطه نصب تذكاري لأبطال الشعب الصيني، مما جعله مركزا سياسيا حيويا يجمع حوله أبناء الشعب، كما تم توسيع شارع تشانغان الذي يمر أمام الميدان وتظلله الأشجار ليمتد إلى ضواحي بكين شرقا وغربا، وتحول حاليا إلى شارع محوري جديد يخترق المناطق الجديدة والقديمة داخل المدينة ويحل محل الخط المحوري القديم الذي يرمز للسلطة المتفردة للإمبراطور الصيني القديم. ويجري في هذه السنة أعمال ترميم وإعادة تخطيط للميدان بمناسبة مرور نصف قرن على تأسيس الصين الجديدة.

ومن معالم بكين مسجد نيوجيه الذي يقف شاهدا على الأثر العربي في عاصمة الصين منذ القرن العاشر الميلادي أي قبل حكم أسرة يوان فقد بني المسجد عام 996م في فترة أسرة سونغ الشمالية (960-1127) وتقول السجلات التاريخية أن مؤسسه هو ناصر الدين الابن الثاني للعالم العربي قوام الدين الذي جاء من بلاد العرب إلى الصين ليستقر فيها. اختار ناصر الدين منطقة قانغر شانغ (شارع نيوجيه قديما) – إحدى مناطق تجمع المسلمين في بكين في تلك الفترة واشرف على بناء هذا المسجد.

تم ترميم وتوسيع المسجد عدة مرات في فترات أسر يوان ومينغ وتشينغ (1206 - 1911) والمسجد في شكله الحالي يرجع إلى فترة حكم الإمبراطور كانغ شي، أسرة تشينغ (1644 - 1911) ويحظى المسجد بشهرة عظيمة بين المسلمين داخل الصين وخارجها بتاريخه العريق وعظمة بنائه وأسلوبه المتميز، فهو ليس مجرد مكان مقدس للشعائر الدينية، بل يتميز بأسلوب بناء القصور الصينية القديمة في الطراز المعماري والتقسيم الكلي، فيعتبر إحدى المجموعات المتميزة للأبنية القديمة المشهورة في بكين.

في 13 يناير عام 1988 قرر مجلس الدولة الصيني إدراج مسجد نيوجيه ضمن الأماكن العامة المحمية في الصين، مما يدل على قيمته التاريخية والفنية. البنايات الرئيسية فيه هي المصلي، برج استطلاع الهلال ومئذنة وقاعتا تلاوة القرآن الجنوبية والشمالية، القاعة الكبيرة، وجوسقان للأنصاب التذكارية والميضأة.

في أواخر فترة أسرة سونغ وأوائل أسرة يوان (تحو عام 1270) جاء العالم أحمد بورتاني والعالم على عماد الدين إلى المسجد لنشر العلوم الإسلامية، ثم توفيا عام 1280 وعام 1283 على التوالي فدفنا في المسجد ويسمى ضريحاهما بضريح الشيخين. كل من يزور المسجد يقف أمام الضريحين تعبيرا عن احترامه لهما. يدل هذان الضريحان اللذان يعود تاريخهما إلى أكثر من سبعمائة سنة على عراقة تاريخ مسجد نيوجيه.

يحتفظ المسجد بكثير من الآثار الدينية والثقافية الهامة، منها بعض المخطوطات العربية والفارسية والمطبوعات النفيسة للقرآن الكريم. فيوجد به نسخة من القرآن الكريم تقع في 30 مجلدا، نسخها إمام صيني بالحبر الأسود والأحمر قبل 300 سنة. خطه قوي ومنتظم والنسخ صحيح بدون خطأ، والتجليد جميل، لذلك قال أحد الخبراء الأجانب إنها من الكنوز التي لا يقدر ثمنها. فهي من الوثائق النادرة لبحوث الإسلام في الصين والتعليم المسجدي.

إضافة إلى ذلك يحتفظ في المسجد بكمية من الأدوات الفخارية والخزفية والنحاسية والحديدية المنقوشة بالكلمات العربية والفارسية والصينية والتي ترجع لفترة أسرتي مينغ وتشينغ.

كل ما ذكرناه آنفا من الآثار الثقافية توضع في القاعة الكبيرة (قاعة الاستقبال) أو تحت أشجار الصنوبر الخضراء أو بين القاعات المرتبة والمئذنة أو في جوسقي الأنصاب التذكارية، مما يضيف إلى المسجد جو المهابة الإسلامية.

منذ أن فتح أبوابه من جديد، بعد إغلاقه أثناء الثورة الثقافية (1966 - 1976) ومع تقدم الإصلاح والانفتاح الصيني أصبح المسجد من المواقع السياحية العامة. يرتاد المسجد كل يوم المسلمون المقيمون حوله لاداء صلواتهم المسلمون من المقاطعات الأخرى ومن الدول الأخرى والزوار الآخرون الذين يزداد عددهم كل يوم. يحضر صلاة الجمعة نحو 600 أو 700 مسلم، وفي صلاة عيدي الفطر والأضحى يؤدي أكثر من عشرة آلاف مسلم الصلاة به. وفي موسم الحج يأتيه الحجاج الصينيون في طريق سفرهم إلى مكة المكرمة والعودة منها فكان المسجد يحتفل بالعيد يوميا.