تشانغ تشيان -- رائد في شق طريق الحرير البري

      لقد تقدم في صحراء غوبي المترامية الأطراف موكب من المسافرين الذين يرتدون أزياء من عهد أسرة هان الغربية متجها إلى الغرب. وكان المسافرون يمشون في تمهل بعد أن أجهدهم السير الطويل، وأضناهم الحر والعطش، ولفحت وجوههم أشعة الشمس المحرقة. ونظر قائدهم وقد علت على وجهه علائم القلق إلى أوعية الماء الفارغة على ظهور الجمال متسائلا: متى يمكنهم العثور على واحة ؟

      لقد وقع هذا المشهد على الطريق المؤدية إلى المناطق الغربية قبل 2100 سنة. اما هذا القائد فهو تشانغ تشيان المكتشف المشهور من عهد أسرة هان الغربية في الصين. وفي عام 138 قبل الميلاد قاد تشانغ تشيان وفده المكون من 100 شخص إلى المناطق الغربية وذلك بأمر من الامبراطور هان وو دي. وبعد الرحلة الشاقة والتغلب على ما لا يحصى من الصعوبات والمخاطر نجح في شق طريقه من وسط الصين إلى المناطق الغربية وهذه هي طريق الحرير الذائع صيته في العالم منذ قديم الزمان.

      إن تشانغ تشيان (؟ - 114ق م) رحالة فذ من عهد أسرة هان الغربية (206ق م ¨C 25م)، كان قد ارتحل إلى الغرب مرتين على التوالي. وبالنسبة لتاريخ ميلاده لم يسجل في الكتب التاريخية، بل ذكر فيها أنه أصبح رجلا مفتول العضل حين دخلت أسرة هان الغربية الحقبة الذهبية من عهد تولى الامبراطور هان وو دي العرش (140-87 ق م). حينذاك كان تشانغ تشيان من حاشية هان وو دي ، وكان مسؤولا عن حراسة أبواب القصور الامبراطورية في الأيام العادية. وكان مشرفا على تهيئة العربة والحصان للامبراطور حين يرحل إلى الخارج. ورغم أن مكانته وراتبه منخفضان الا أن كفاءته الفائقة حظيت باهتمام وإعجاب هان وو دي. ولذلك عندما قرر الامبراطور إقامة الاتصال مع المناطق الغربية اختار تشانغ تشيان رسولا له .

      وفي عهد أسرة هان الغربية كانت المناطق الغربية تعني مناطق غرب وسط الصين، أي منطقة شينجيانغ حاليا، أو المناطق الواسعة في آسيا الوسطى والغربية غرب قلعة يويمن في مقاطعة قانسو، وبعض المناطق في أوروبا اليوم . وفي تلط الأيام فصلت الجبال الشاهقة المتراصة وصحراء غوبي المترامية الأطراف بين وسط الصين والمناطق الغربية الوسعة.

      وفي عام 138ق م  وجه الامبراطور هان وو دي رسوله تشانغ تشيان لأول مرة إلى المناطق الغربية لاستنهاض أهل قومية داروتشي هناك (قومية بدوية عاشت على شواطئ نهر ييلي اليوم) للمقاومة معا ضد شيونغنو (الهون).

      وشيونغنو قومية بدوية قوية في شمال الصين في التاريخ القديم، كانت تعتدي على وسط الصين من حين لآخر منذ أوائل أسرة هان الغربية، وقد سيطرت على ممر خشي منفذ وسط الصين إلى المناطق الغربية، مما شكل تهديدا خطيرا على أسرة هان الغربية. ولذلك قرر الامبراطور هان وو دي شن الحرب ضد هذه القومية الخطرة. ولكن قبل تنفيذ هذه الأعمال العسكرية أرسل تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية للاتحاد مع الأقليات القومية الأخرى هناك.

      وفي هذه المرة قاد تشانغ تشيان 100 شخص متجها إلى الغرب، وكان دليلهم قان فو من عبيد قومية شيونغنو. وانطلق من تشانغآن عاصمة أسرة هان الغربية، وسار على امتداد نهر ويخه، واجتاز جبل تشينلين، ثم عرج على الشمال الغربي، وعبر النهر الأصفر، حتى وصل إلى منطقة ممر خشي.

      وعندما مروا بأرض شيونغنو قبض تشان يوي زعيم شيونغنو عليهم، فحجزوا هناك عشر سنوات. وخلال هذه القترة زوج الزعيم تشان يوي رسول أسرة هان الغربية تشانغ تشيان من احدى نساء شيونغنو محاولا استمالته اليه. وفيما بعد أنجبت زوجته له ولدا. ولكن هذا لم يوهن عزيمة تشانغ تشيان الرامية إلى تأدية رسالته الشريفة.

      وفي عام 129 ق م هرب تشانغ تشيان مع وفده من أيدي جنود شيونغنو مستغلا إهمالهم بحراستهم. ثم واصل السير نحو الغرب، فمر بتشاشي في حوض توربان، ودخل يانتشي، ثم عبر قويتسي شرق كوتشار، وسور (كل الأماكن المذكورة في هذه الطريق هي في منطقة شينجيانغ حاليا)، ووصل إلى داوان ،وهي دويلة زراعية متطورة، تشتهر بانتاج الأرز والقمح والنبيذ. وعندما عرف ملك داوان مجيء رسول أسرة هان الغربية إلى دويلته فسرعان ما استقبله مسرورا، اذ أنه سمع أن أسرة هان الغربية غنية جدا، ورغب في إقامة الاتصال معها منذ مدة طويلة. ثم أرسل رجاله ليرافقوا تشانغ تشيان ووفده إلى كانغجيوي داخل حدود الاتحاد السوفياتي السابق، كما أرسل أهل كانغجيوي تشانغ تشيان ووفده إلى داروتشي.

      اما داروتشي فأرضها خصبة وأهلها يعيشون في سعادة وسلامة، فلا يرغبون في محاربة شيونغنو من جديد. فلذلك لم تتوصل أسرة هان الغربية إلى نتيجة مع داروتشي حول المقاومة المشتركة ضد شيونغنو. وفيما بعد عبر تشانغ تشيان نهر ويشيوي (نهر آمو اليوم)، ووصل إلى مدينة لاتشي (واتشيرباد في افغانستان اليوم) الواقعة في داشيا (الدويلة القديمة في آسيا الصغرى)، حيث تجول تشانغ تشيان ووفده في كل مكان، وعرف كثيرا عن الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وبعد سنة واحدة قرر تشانغ تشيان العودة إلى بلاده.

      وفي عام 128 ق م  انطلق تشانغ تشيان ووفده في طريق عودتهم. ومن أجل تجنب شيونغنو لم يعد إدراجه، بل تحرك من داروتشي، وتسلق الجبال الشاهقة، ثم سار على امتداد السفوح الشمالية لجبال كونلون متجها إلى الشرق، ومر بيارقند ويويتشنغ (خوتيان في شينجيانغ اليوم). ولكن شيونغنو أسره مع وفده مرة ثانية في طريق عودتهم. وبعد اكثر من سنة هرب تشانغ تشيان وزوجته إلى أسرة هان الغربية.

      واستغرقت هذه الرحلة التي أداها تشانغ تشيان 13 سنة، من عام 138 ق م إلى عام 126 ق م . ورغم أن تشانغ تشيان لم يؤد فيها الرسالة السياسية الرامية إلى الاتحاد مع داروتشي الا أنه بصفته رسولا رسميا لأسرة هان الغربية نجح مع وفده في فتح المناطق الغربية لأول مرة، واستقصى بنفسه عن المواصلات البرية من الشرق إلى الغرب، وشق ((طريق الحرير)) المشهورة في العالم التي  تؤدي إلى قارة آسيا وقارة أوروبا. وإن رحلة تشانغ تشيان هذه عززت الاتصالات والصداقة بين أبناء قومية هان وأبناء مختلف القوميات في المناطق الغربية، وبين الصين وبلدان آسيا الوسطى والغربية، كما تركت أثرا عميقا في تاريخ الصين وفي تاريخ الاتصالات بين الشرق والغرب.

      استمرت الحرب بين أسرة هان الغربية وشيونغنو بضع عشرة سنة ، فانتهت بانتصار حاسم لأسرة هان الغربية، مما استأصل تهديد شيونغنو لأسرة هان الغربية منذ مدة طويلة، وفتح المواصلات بين أسرة هان الغربية والمناطق الغربية من حيث الأساس. ومن أجل تطوير العلاقات الوثيقة بين أسرة هان الغربية ومختلف القوميات في المناطق الغربية ومن أجل توسيع الاتصالات مع بلدان آسيا الوسطى والغربية وجه الامبراطور هان وو دي رسوله تشانغ تشيان إلى المناطق الغربية مرة أخرى في عام 119 ق م.

      وفي الرحلة الثانية قاد تشانغ تشيان وفده المكون من 300 شخص ومعهم كميات ضخمة من النقود الذهبية والحرير وعشرة آلاف رأس من الأبقار والأغنام. وهذه المرة لم تكن اتصالا وديا فحسب، بل كانت اتصالا لتبادل الموارد ذات الحجم الكبير. ومنذ شق تشانغ تشيان طريق الحرير كانت مختلف الأسر في الصين تزيد من طول هذه الطريق القديمة وتعمل على تطويرها.

      إن الصين موطن الحرير، كما هي أول دولة في اختراع صناعة الورق والبارود وطباعة النفش. ومنذ فتح تشانغ تشيان المناطق الغربية سارت مواكب التجار الصينيين من مختلف الأسر بعد أسرة هان على طريق الحرير ذهابا وايابا، حاملين الحرير والأوراق والمنتجات النفيسة من الدول الواقعة على جانبي طريق الحرير. ولذلك أن شق طريق الحرير وتطورها هو خلاصة حكمة وعرق شعوب مختلف  بلدان آسيا الوسطى والغربية، وإن هذه الطريق أصبحت طريق صداقة تربط بين الصين والدول في آسيا الوسطى والغربية وأوروبا.