مسجد هوايشينغ في مدينة قوانغشو

عندما كانت التبادلات الاقتصادية والثقافية بين الصين وبلاد العرب في أوج ازدهارها في عهد أسرة تانغ (618-907)، توارد عدد كبير من التجار العرب إلى مدينة قوانغتشو إحدى المدن الساحلية في الصين وأبرز موانئها مرورا بالخليج العربي وخليج البنغال ومضيق ملقا وبحر الصين الجنوبي وكان من ضمنهم جماعة استوطنوا هذه المدينة فبنوا فيها مساجد لأداء الصلاة ومعالجة شؤونهم المتعلقة بالدين والعبادات. ويعتقد بأن مسجد هوايشينغ (المسمى أيضا "مسجد قوانغتا" المنارة لفخامة منارته) هو من المساجد التي تم بناؤها على أيدي الجاليات العربية الإسلامية آنذاك. ولكن الرواية التي سبق ذكرها في صدر الكتاب تقول بأنه سيد على يد الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص رضى الله عنه الذي جاء إلى الصين لنشر الإسلام بأمر من النبي. أما الكتابات العربية المنقوشة على اللوح الرخامي في مسجد هوايشنغ، فتتفق وما ورد في الرواية، إذ جاء فيها:

"هذا هو أول مسجد في الصين بناه سيدنا وقاص رضى الله عنه، إذ دخل هذه الدار لإظهار الإسلام بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جدده المتأخرون مرة بعد مرة. قد حفظه الله تعالى إلى الآن سليما من الآفات. وهو في الصين مبدأ الإسلام ومنبع العلوم. فينبغي لمسلمي الصين أن يزينوا ظهره بالعمارة الحسنة، ويصلحوا باطنه بإقامة الجماعة. وعلى مسلمي هذا البلد خصوصا إنشاء مدرسة. فاعتبروا يا أولى الأبصار .. التوقيع: الوصي سليمان عند الكريم"

إن هذه الكتابات العربية سليمة ومتماسكة لغويا. فمن المحتمل أن تكون من كتابات أحد المسلمين العرب الذين استوطنوا مدينة قوانغتشو في وقت مبكر. ولكن ليس هناك سبيل إلى معرفة الزمن الذي نقشت فيه هذه الكتابات غير المؤرخة. ومع ذلك فإن كلمات "ثم جدده المتأخرون مرة بعد مرة" الواردة في الكتابات توحي إلينا بأنها كتبت بعد زمن طويل من بناء المسجد. أما الصحابي سعد وقاص الوارد في الرواية، فبالإضافة إلى ورود ذكره في الكتابات العربية المنقوشة ما يزال ضريحه قائما على مقربة من جسر ليوهوا في ضواحي قوانغتشو. وجرت العادة على تسميته "ضريح الحكيم المرحوم" تعظيما لشأن صاحبه. وأكثر من ذلك أن المسلمين هناك يقومون عادة بزيارة هذا الضريح في الأعياد الإسلامية، سائلين الله أن يتغمد صاحبه برحمته ومغفرته. وقد تبين لنا أن مجيء شخص إلى الصين يدعى وقاص لإظهار الإسلام قد حدث فعلا ودون أدنى شك. وبيد أن "وقاص" الذي يتردد اسمه على ألسنة المسلمين الصينيين ليس الصحابي سعد ابن أبي وقاص الذائع الصيت في عهد النبي عليه السلام. إذ أن كل من له دراية بتاريخ الإسلام لا يخفى عليه أن هذا الأخير كان قائدا عسكريا بجوار النبي عليه السلام، ظل ملازما له في غزواته لمحاربة أعداء الإسلام من مكان لآخر، وساهم بقسط كبير في الكثير من المعارك التي جرت في فجر الإسلام. وإثر ذلك انتقل إلى القادسية في العراق اليوم بأمر من الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ورضى الله عنه، حيث قاد معركة عنيفة ضد الفرس، عقد له فيها لواء النصر، واظهر الكثير من المواهب العسكرية المثيرة للإعجاب. وقد أبلى في القتال بلاء حسنا على امتداد حياته، وخاض غمار الكثير من المعارك الحامية الوطيس قبل أن توافيه المنية في المدينة المنورة سنة 675م. وأهم من ذلك ان المصادر العربية لم تذكر قط أن الصحابي الجليل سعد ابن أبي وقاص قد وطئت قدماه الصين. فغاية ما يمكن أن يقال في أمر وقاس الوارد ذكره في الرواية  أنه مجرد تشابه في التسمية، ليس الا.

أن "تاريخ تينغ" الذي ألفه يوه كه هو أول كتاب صيني ذكر فيه مسجد هوايشنغ. وقد بدا المؤلف يدون ذكرياته في العاشرة من عمره (أي في سنة 1192م) قائلا: "في المسجد منارة، ارتفاعها عشرات الأمتار. وكل ما نقش عليها كتابات غربية" دون ان يشير إلى تاريخ بنائه .. وبعد أربع عشرة سنة من ذلك (أي في سنة 1206م) تم للشاعر فانغ شين رو تأليف ديوان شعر بعنوان ((مائة أنشودة لبحر الصين الجنوبي)) وبين دفتيه قصيدة بعنوان ((تمجيد المنارة الأجنبية)) ورد في حاشيته الختامية ما يلي: "بدى ببناء المنارة الأجنبية في عهد أسرة تانغ. وجرت العادة على تسميتها &منارة هوايشنغ&، وتبدو على شكل اسطوانة. ويبلغ ارتفاعها عشرات الأمتار". زد على ذلك أن الكتابات المنقوشة على ((نصب تجديد بناء مسجد هوايشنغ)) والمسجلة بيد قوه جيا في سنة 1350م، تشير إلى أن المسجد "قائم من عهد أسرة تانغ". ونستدل من ذلك على أهمية القول ببنائه في تلك الفترة! غير أن التدوينات التاريخية المذكورة أعلاه ظهرت بعد 300-400 سنة من تاريخ بناء المسجد المبين في الرواية الشائعة، فلا يمكن اعتبارها مستندا لتحديد تاريخ المسجد من حيث وجهة النظر التاريخية. هذا ما دفع بعض المؤرخين إلى القول بأن تاريخه قد يعود إلى القرن الثاني عشر الذي ظهرت فيه تدوينات يوه كه وفانغ شين رو. وبدهي أن هذا الرأي ليس له أساس من الصحة كما ذكرنا سابقا. وهناك فريق من المؤرخين رأوا أن المكان الذي كان ذلك المسلم الصيني يؤم فيه المصلين بتعيين من الإمبراطور الصيني هو سلف مسجد هوايشنغ على الأرجح، وان كانت المنارة غير مذكورة في كتاب ((رحلة سليمان)) الذي تم تأليفه في القرن التاسع. وهؤلاء المؤرخون لا يعتبرونها دليلا يؤكد وجود المسجد أو عدم وجوده، ذلك أنها لا تؤثر في كيان المسجد أبدا سواء أكانت موجودة أم غير موجودة. اذ يمكن اعتبار المسجد قائما بمجرد قيام مبناه الرئيسي قاعة الصلاة. أما المنارة وهي مبنى جانبي للمسجد فيجوز بناؤها خلال بناء قاعة الصلاة، ويجوز بناؤها بعد ذلك بفترة من الزمن. وتحليل المسالة على هذا النحو يبين لنا أن القول ببنائه في عهد أسرة تانغ له ما يسوغه، وليس مجرد تلفيق.

وفيما يختص بتسمية المسجد يشير كتاب ((فصول تانغ الستة)) إلى أنه "بني على يد الجنرال هواي شنغ، فأطلق عليه اسمه"، بينما تفيدنا المنقوشات على ((نصب تجديد بناس المسجد)) أنه: "سمي بذلك (أي هوايشنغ وهي تحمل معنى الحنين إلى النبي) تعبيرا عن الحنين إلى النبي عليه الصلاة والسلام". وتعد المقولة الثانية مما يتفق عليه المؤرخون عموما. ذلك أن المسلمين العرب الذين استوطنوا مدينة قوانغتشو في فجر الإسلام إما أن يكونا قد نشئوا في عهد ليس بعيدا عن عهد النبي (ص)، وإما أن يكونوا قد سبق لهم ان اهتدوا إلى الإسلام على يده مباشرة. فبعد أن هاجروا إلى الصين، لم يستطيعوا كبح جماح حنينهم إلى النبي (ص). وهذا ما حداهم إلى تسمية المسجد الذي بنوه "هوايشنغ" تعبيرا عن مشاعرهم العميقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد ورد في المنقوشات على ((نصب تجديد بناء المسجد)) الذي يرجع تاريخه إلى سنة 1450 ما يلي: لقد دمر المسجد في سنة كويوي (1343م) في عهد تشنتشنغ لأسرة يوان، وغدت مبانيه أنقاضا". فليس هناك سبيل إلى معرفة ملامحه الأصلية. أما قاعة الصلاة المعاد بناؤها في سنة 1350م، فقد تلاشت هي الأخرى في الثلاثينات من القرن الجاري. غير أن مقالة ((مشاهدات في أثناء تفكيك قاعة مسجد هوايشنغ)) قد أعطت لمحة عن ملامح المسجد السابقة، اذ جاء فيها ما يلي : "يتربع مسجد هوايشنغ في شارع قوانغتا (المنارة)، ويغطى مساحة واسعة من الأرض، ويسور بسياج قصير أمام بوابته. ولو سرت من البوابة إلى الداخل عشرات الأقدام، لوجدت نفسك أما برج مشاهدة الهلال القائم الشامخ بكل خيلاء، حيث يمكن رؤية سلم متأنق وممرين مسقوفين، يمتد أحدهما في شرقي فناء المسجد والآخر في غربيه، وعلى جانبي كل منهما تنتصب كثير من أشجار الصنوبر الهرمة المخضوضرة، مما يزيد المكان جمالا وروعة. وهناك ورصيف يرتفع 9 درجات، وتطوقه الدرابزينات وتطل عليه قاعة الصلاة البادية على شكل قصر صيني الطراز. وهي مصلى للمسلمين المحليين. وقد غدت هذه القاعة المهيبة عرضة للسقوط منذ سنوات، لذلك تقرر إعادة بنائها اعتمادا على التبرعات بعد ترميم المنارة. ولكن الأهالي واجهوا الصعوبات في تحقيق ما يصبون إليه لضخامة المشروع. وأشد ما يدعو إلى القلق أنهم لن يجدوا مكانا لائقا لإقامة الصلاة إذا ما تهدمت هذه القاعة. وعبر مناقشات متكررة بدءا من السنة الماضية (1934م) إلى الشهر الجاري (في ربيع سنة 1935) اجمعوا على تفكيكها في الرابع والعشرين من الشهر نفسه. وقد تجلى للأعين ان مواد البناء المفكوكة من مواقعها أمتن  وأروع بكثير من مثيلاتها في زماننا هذا. أما تسنيمة سقف القاعة فقد كانت جد متماسكة ومتكاملة لارتباط كل أجزائها بالأسلاك النحاسية والمسامير الضخمة. وغاية ما يدعو إلى الإعجاب ان اجواف التسنيمة كانت مختومة بأحكام .."

أما قاعة الصلاة التي أعيد بناؤها سنة 1935، فهي كبيرة المساحة .. حسنة الإضاءة .. مميزة بخصائص القصور التقليدية الصينية أيضا. وبعد التحرير عام 1949 مدت الحكومة الشعبية يد المساعدة إلى المسلمين هناك لترميم مسجد هوايشنغ مرارا، مما جعله يبدو في غاية الروعة والبهاء. وبالإضافة إلى أنه بيت من بيوت الله، يقيم فيه المسلمون الصينيون والأجانب صلواتهم، فقد اصبح مزارا للضيوف القادمين من كال فج عميق بعد إدراجه في قائمة أهم الآثار المحمية على نطاق مدينة قوانغتشو.

تتجلى قيمة مسجد هوايشونغ في عراقة تاريخه وضخامة بنائه المتميز بأسلوب العمارة العربي: منارة أسطوانية الشكل، ترتفع 36 مترا عن أديم الأرض .. وتبدو كأنها شعلة تناطح السحاب، لأنها تتكون من جزأين .. الجزء الأعلى يمثل فتيل الشعلة، ونظيره الأسفل يمثل بدنها. أما جدرانها المبنية من الطوب فتتكون من طبقتي داخلية وخارجية، حشر بينهما التراب لتقوية الجدران. وفي جوف المنارة سلمان لولبيان، لا يتشابك أحدهما مع الآخر، ولك منهما 154 درجة. وهناك نافذة صغيرة على جدران المنارة بعد كل عدة درجات محددة، تصلح لتسرب الضوء إلى الداخل. ولو صعدت إلى قمة المنارة، للفت نظرك معالم مدينة قوانتشو كلها. وتختلف المنارة عن الباغودات الشائعة في الصين اختلافا تاما من حيث شكلها وتركيبها على حد سواء. فيمكن القول بأنها منارة مبنية على الطراز الإسلامية البحت. وعلى الرغم من أن هذه المنارة قد أخنى عليها الدهر، إلا أنها ما زالت تنتصب بكل خيلاء على ضفة نهر اللؤلؤ كما كانت عليه سابقا.. أنها شاهد عيان على عراقة التبادلات الثقافية بين الصين وبلاد العرب، كما أنها ترمز إلى أن مجرى الصداقة بين شعب الصين وشعوب العالم الإسلامي مازال يتدفق بزخم شأنه شأن نهر اللؤلؤ تماما.